لم تكن عودة الاغتيالات المنهجية محض تصفية حسابات قديمة ومستجدة.
إنها لعب بالنار عند حافة هاوية بإقليم تكاد تشتعل النيران في جنباته كلها.
إثر اغتيال “إسماعيل هنية” رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” بعد يوم واحد من اغتيال “فؤاد شكر” أبرز القادة العسكريين في حزب الله، تبدت مخاوف واسعة من انفلات وشيك إلى حرب إقليمية مدمرة.
برمزية موقعه حمل اغتيال “هنية” في العاصمة الإيرانية تحديا يصعب تجاوزه دون رد مماثل، وإلا تقوضت هيبة طهران الإقليمية.
بالتوقيت فإن الاستهداف جرى في اليوم الأول للرئيس الإصلاحي “مسعود بزشكيان”، كأنه محاولة لقطع الطريق على رهانه الانتخابي في تحسين العلاقات مع الغرب.
وبالموقع فإنه جرى بأحد المباني التابعة للحرس الثوري، كأنه رسالة أخرى تطعن فى الإجراءات الأمنية وتشكك في اختراقها.
بقدر آخر مثّل اغتيال “شكر” في الضاحية الجنوبية بالعاصمة بيروت، قلعة “حزب الله”، انتهاكا لكل الخطوط الحمر اء في قواعد الاشتباك وتحديا لقدرته على الردع.
فى الحدثين المتعاقبين نذير بعودة الاغتيالات المنهجية، التى أخذت مداها عند مطلع القرن بالنيل من مؤسس “حماس” الشيخ أحمد ياسين وبعده عبدالعزيز الرنتيسي أقوى رجالها، وعدد كبير آخر من القيادات السياسية والعسكرية في العمل الوطني الفلسطيني، كان أخطرها الوصول بالسمّ إلى زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات.
العودة إلى الاغتيالات المنهجية يفسح المجال واسعا لعودة مضادة ونشوء منظمات فلسطينية تتبنى خيار التصفيات الجسدية، على النحو الذى كان شائعا في سبعينات القرن الماضي.
عكس “هنية” لم يكن “شكر” وجها مألوفا في الحياة العامة، رغم مكانته العالية في صلب القرار العسكري والسياسي للحزب.
استخدمت ذريعة الانتقام لمقتل اثني عشر طفلا درزيا في “مجدل شمس” بالجولان المحتل، لشن غارة على الضاحية الجنوبية نالت من أبرز قياداته العسكرية، الذي تتهمه واشنطن بمسؤولية الهجوم على مقر مشاة البحرية الأمريكية في بيروت عام (1983).
يستلفت النظر أن إسرائيل رفضت أي تحقيق دولي في حقيقة واقعة “مجدل شمس” ومضت بعيدا بالاستثمار السياسي لإثارة الفتن بين العرب الدروز والعرب الآخرين، وبين الدروز أنفسهم.
أجهضت الفتنة من دروز الجولان وأهالي الأطفال الضحايا، طردوا وزير المالية المتطرف “بتسلئيل سموترتش” من المشاركة في الجنازة ورفضوا أن يجمعهم مشهد واحد مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
كان دور الزعيم الاشتراكي الدرزي اللبناني وليد جنبلاط حاسما في وأد الفتنة المستهدفة.
أعطى تعليمات مشددة بحسن استقبال أي نازحين من الجنوب حيث يتمركز الشيعة، إلى الجبل حيث يتمركز الدروز إذا ما اضطروا إلى ذلك بضغط أية عمليات عسكرية إسرائيلية واسعة محتملة.
تبدت في المشهد مفارقتان كبيرتان، أولهما، حديث اليمين المتطرف عن دروز الجولان كـ”مواطنين” إسرائيليين فيما أغلبهم لا يحملون جنسيتها ويعتبرون أنفسهم عربا ينتمون إلى سوريا لا إلى غيرها، فضلا عن أن الجولان نفسه أرض سورية محتلة وفق القانون الدولي!
وثانيهما، مع فداحة كارثة “مجدل شمس” إلا أنها لا تقاس بأعداد الشهداء والمصابين في قطاع غزة وجرائم الحرب والإبادة التي يتعرض لها أهله بيد القوات الإسرائيلية.
إثر الاغتيالين المتعاقبين خيمت سيناريوهات عديدة للرد، بعضها يتحدث عن عملية منسقة لها دوي وأثر تعيد من جديد معادلات الردع بين إسرائيل وإيران إلى الأوضاع التي بدت عليها إبريل الماضى.
لكل ضربة رد فعل عليها، ولكل عمل داخل الحدود فعل مضاد داخل الحدود الأخرى.
هذا ما سوف يحدث، بصورة أو أخرى، لكن دون أن يكون واضحا حتى الآن طبيعة الرد وحدوده، جامحا بقدر خطورة الاغتيالين أم رمزيا حسبما تضغط دوائر أمريكية وأوروبية عديدة.
بأثر اغتيال “هنية” يصعب الحديث بأي مدى منظور عن استئناف المفاوضات غير المباشرة في القاهرة والدوحة بين “حماس” وإسرائيل.
لم يكن معقولا اغتيال المسؤول السياسي الفلسطيني الأول أثناء المفاوضات إلا أن يكون مقصودا نسف أية رهانات على وضع حد للحرب في غزة بصفقة تبادل للأسرى والرهائن.
بالضبط هذا ما يريده نتنياهو لأسباب تتعلق بمستقبله السياسي وطلبه إدامة الحرب وتوسيعها حتى يحقق ما يسميه بـ”النصر المطلق”.
بأثر اغتيال “شكر” تتباعد أية احتمالات لتهدئة الجبهة الشمالية الإسرائيلية وعودة آلاف الأسر إلى المستوطنات التي اضطروا لمغادرتها.
بالاغتيالين حاز نتنياهو مكسبا يثبت مكانته السياسية داخل الرأي العام الإسرائيلي بعدما اهتزت بشدة إثر أحداث السابع من أكتوبر (2023)، لكنه هش بأي حساب استراتيجي وتداعياته لا يمكن التحكم فيها.
ربما أفضى الاغتيالان إلى رد اعتبار الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية، التي تضررت تماما، لكنه جاء منقوصا ومشكوكا فيه بالنظر إلى الدور الأمريكي الذى وفر المعلومات التفصيلية والتقنيات الحديثة التي استخدمت رغم نفي واشنطن المتواتر لأية صلة، أو علم مسبق باغتيال “هنية”.
كان ذلك النفي تعبيرا عن خشية أن تفلت ردات الفعل إلى حرب إقليمية لا تريدها وتضر بمصالحها لا إقرارا بالحقيقة.
حاولت الإدارة الأمريكية التحكم المسبق في مسار المواجهات المحتملة بعد تحقيق أهداف الاغتيالين.. مرة بالتأكيد أن هناك فرصا لوقف الحرب على غزة وإتمام صفقة التبادل.. ومرة أخرى بالتحذير من عواقب وتداعيات الحرب الإقليمية المحتملة.
في السياق جاء اغتيال “شكر” و”هنية” إثر اقتحامات لمتظاهرين من اليمين المتطرف، بدعم من وزراء فى حكومة نتنياهو، لقواعد عسكرية في ما يشبه الانقلاب على مركزية الجيش في بنية الدولة حسب تصريح لافت لزعيم المعارضة “يائير لابيد”.
استهدفت الاقتحامات منع محاكمة جنود ارتكبوا جرائم مروعة بحق أسير فلسطيني وصلت إلى هتك العرض والاغتصاب.
كان القصد الإيحاء بأن هناك دولة قانون تحقق في وقائع أسهبت في كشف فظاعتها المنظمات الحقوقية الدولية، لا إجراء محاكمة حقيقية، غير أن اليمين الإسرائيلي المتطرف حاول أن يؤكد سطوته ونفوذه وأنه لا ملاحقة لمن يقتل أو يعذب الفلسطينيين.
ما بدا خطيرا في تلك الاقتحامات سقوط هيبة الجيش الإسرائيلي نفسه.
ربما كان ذلك سببا إضافيا من حيث التوقيت للاغتيالين المتزامنين لاستعادة الهيبة المفتقدة.
الحسابات ملغمة وسيناريوهات الحرب الإقليمية الواسعة محتملة أكثر من أي وقت مضى.
معضلة السياسة الأمريكية إنها توفر لإسرائيل الغطاء السياسي والاستراتيجي اللازم لانتهاك كل القواعد القانونية الدولية دون رادع وتحذر الطرف الآخر من الانزلاق لحرب إقليمية دون اعتبار لمصالحه وهيبته.
يخجل القلب من نعيك، ويضيق الحرف برثائك، تفيض المشاعر حزناً وصدمة إنّما لا يتّسع الفضاء الالكتروني لترجمتها.. تربّطت أصابعي عن النقر على لوحة الحروف واحترقت دموعي غزارة في المُقل.
غبت أيّها المتمرّد الأوّل يا من نفضت الغبار عن فكرنا لنستنير وبقينا جهالاً!
هذا المقال أوائل البدايات فيالصحافة كتبته في 2018 وكان من أجمل ما كتبت لأجمل من عنه كتبت
تأثّرت بك وانتظرت عودتك لأعاصر شيئاً من فنّك الأسطوري.
كان مقالي حلماً جميلاً لكنّك رحلت دونما وداع كما أعزّ أحبّائي.
ثقُل كأس الموت يا تمّوز، حرقته لاذعة ترفض التروّي فمهلاً على المواجع
شخصٌ بمثابة الحلم تتمنّى إدراك حقيقته و سبر عمق أغواره، إلّا أنّك إن نلت شيئاً عنه تجد أنّك لا زلتَ على البرّ المربِك، الأكثر حيرةً.
لطالما تمنيّتُ أن أفهم من هو؟وكيف يُفكّر؟ ومن أين يأتِ لنا بكلّ تلك الحقائق الصادمة؟ السّاخرة والآخذة.
لِمَ هو بهذا التعقيد وتلك السلاسة في وقتٍ واحد؟!
كلّما صعُبَ عليك فهمه هان، و كلّما هانت كلماته استصعبت.
ذلك السّهلُ الممتنع ممتلئٌ بالشغف وكثير البرود، أستمعُ إلى حواراته القليلة جدّاً فأتمنّى أن أجد لتساؤلاتي أجوبة..
زياد الرّحباني اعترافات مشاكسة عمّا يجول في خاطره، يفاجِئُكَ ببساطة مفرداته وصعوبة تقبّلها في آن، حين يقول ” أنا مائة ألف شخصيّة فايتين ببعض” ويذهلك بحقيقةٍ أمرّ.
مضيفاً “بعد 5 دقائق من ولادتك رح يقرّروا دينك، جنسيتك، مذهبك، طائفتك، ورح تقضّي عمرك عم تدافع بغباء عن إشيا ما اخترتا”!! حتّى أنّه علّق وانتقد تغيير التوقيت حيث قال ساخراً:
” كل سنة بتقدموا السّاعة وبترجعوا لورا 10 سنين”.
هل هو بهذه العبقريّة التي يبدو عليها أم نحن بتنا جهالاً، لكثرة ما خذلتنا المعرفة في هذا الوطن الكئيب.
لماذا لا نرى ما يراه و نفقه ما يقوله، ونفكّر ولو قليلاً بنهجٍ يماثله؟!!
ليس زياد الرّحباني ذلك الموهوب، المؤلّف المسرحيّ أو الكاتب والملّحن الموسيقيّ فقط.
هو مَن لا تفوته فائتة في السياسة والأدب والفن والموسيقى والمجتمع ودائماً ما يُفصّلُ اعتراضات واتّهامات للجميع دون استثناء..
إنّه المشاكس الحذر، الصامت طويلاً ولكن إن حكى، أبكى التخلّف وأحبط مفاعيل الجهل، وصبَّ لينَ الزّيت على أفواه النار.
من هنا فإنّ المسرح اللّبناني في غياب زياد ناقصٌ وعند مستوى خطِّ الفقر!!
إلّا أنّه يغيب فجأةً وينقطع عن محبّيه عمراً. ليمنَّ علينا مؤخراً بعودةٍ خجولة أطلق فيها الوعد بالبقاء.
وها نحن هنا بعد سنوات من القطيعة المجحفة تلك، لا نُريدُ رحبانيّات متفرّقة، بل تتملّكنا رغبةٌ جامحة بلوحةٍ عنوانها فيروز وزياد الرحبّاني يغنيّان معاً، ويكسران كبرياء أفقٍ مثقّلٍ بانحطاط موسيقيّ!
ها هو المجنون العبقريُّ يحطّم صومعته ويُلقي علينا بسحر التراتيل.. بذكاءٍ فطري يضبطُ التوقيت الذي يراه مناسباً. مهما انتظرنا يبدو العناء مستحقّاً أمام جنون العظمة.
حين تدرك أنّ وحدَها النّسور من تغرّد خارج السّرب، وحين تقرّر تعود إلى أحضان فيروزها لتصبح الأغنية صلاة..
في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.
إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندمايُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.
أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!
إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.
أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.
وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.
نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.
السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…
كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.
فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.
بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.
ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.
من الذي انتصر حقا؟!
أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.
إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.
القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.
لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.
“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.
كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.
إنهما حرب واحدة.
هكذا بكل وضوح.
أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.
لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.
هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.
لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.
“إنها حثالة”!
لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.
حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.
التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.
يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.
بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.
قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.
ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.
بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.
إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.
بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.
تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.
كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.
أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.
في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.
فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.
فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.
المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.
بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.
بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.
وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.
أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.
نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.
كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.
وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.
الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.
أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.
بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.
الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.
والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.
الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.
هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.
لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.