صورة طريفة كان يستعملها الزعيم الكوبي “فيديل كاسترو” عندما كان يشبّه ثورة بلاده بالدرّاجة، ويقول إنهما تشتركان في عدم وجود إمكانية للرجوع إلى الوراء … تذكّرت هذا الكلام لا لأتحدث في الثورة و في قيس سعيد و لا حتى في البسكلاتات، بل عن حال هذه المنطقة الذي غالب منطق التاريخ ودوران عقارب الساعة، و يسعى سعيا حثيثا إلى وراء الوراء …
الماضي عندنا خير من الحاضر … و دون مرَض بالحنين و دون تعداد أمثلة بلا نهاية، هات نأخذ التفرّج على المناسبات الرياضية الكبرى … كأس العالم، الألعاب الأولمبية، كؤوس أوروبا (أندية و منتخبات)، كؤوس إفريقيا (أندية ومنتخبات) و باقي التظاهرات بما في ذلك مباراة القرن في الملاكمة (كلاي وفورمان) أو مباراة القرن الأخرى في الشطرنج (“فيشر” و “سباسكي”) و غير ذلك وغير ذلك … حيث كانت المتابعة مضمونة على تلفزتنا الوطنية، سواء بالتعاون مع شبكة الأوروفيزيون، أو مع اتحاد الإذاعات العربية، أو بوسائل التلفزيون التونسي، إذا كان منتخبنا يلعب هنا أو في الخارج …
كان ذلك ميسورا إلى حدود التسعينات … غير أنه منذ أن استولى الريْع النفطي على فضاءاتنا، طفقت هذه الفوانيس في الاختفاء تدريجيا … الرد الأوّل كان بالذهول، تكون هناك مباراة مهمّة أو حدث رياضي كبير، نفتح قناتنا الوطنية العتيقة … لا شيء … تشك في البداية أن الحدث تأجّل، أو أن هناك انقطاعا في البثّ يسدّونه ببعض الأغاني المسجلة … و يطول الأمر، و يخرج الجيران مسائلين بعضهم البعض كما يحدث في انقطاعات الكهرباء … و في الأخير يتطوّع شخص فطِن لإبلاغنا أن البث تمّ بيعه لقناة عربية … و كيف نتفرج إذن؟ ما عليك سوى الاشتراك في تلك القناة … نعم؟ … و بالفلوس أيضا.
بدأت مع “آر تي” (السعودية التجارية، لا تلك الأوروبية الثقافية الراقية) ثم مرّت عصا التناوب لمن دفع أكثر… مرة لـ “أوربيت” و مرة للا أدري من، و أخيرا للجزيرة الرياضية التي غيرت اسمها بعد فترة لتصبح “بي إين” … والغريب أن كل هذا تزامن مع انفتاح تلفزيوني عالمي و مع دخول البارابول و الأقمار الصناعية … يعني الآخرون يفتحون شوارع شاسعة تغطي الفضاء الرحب بالصور و المعلومات و القنوات … بينما نحن العرب لا نخترع شيئا و لا نفتح و لو قرية نائية، و مع ذلك نسارع إلى وضع اليد و الابتزاز و فرض رسوم العبور …
و من وقتها و في كل تظاهرة أو مباراة تهمّنا كثيرا، نهيم بين ما يتاح من قنوات مفتوحة تتكرّم علينا … أو بين باعة منصف باي بحسب شطارتهم في “تكسير” الشفرات أو متاهات أخرى تختلط فيها التكنولوجيا بالقرصنة الممنوعة … و تجد نفسك كالمشبوه الباحث سرّا عن مادة يعاقبها القانون، و تتعامل مع أشخاص لا فرق لديهم بين الدار و الحبس، و تعود إلى بيتك خائفا عند كل منعطف و كل دورية … ناري على عمري …
تريد الفرجة هانئا باحترام القانون؟ طيب، إذن عليك بدفع اشتراك مثلما أسلفنا في تلك القناة التي تملك حقوق البث … و المبلغ كما يقولون يصل إلى أرقام كبيرة، و هي قد تتغيّر و تضيق و تتسع بحسب مزاج التاجر العربي … مع العلم بأن هذا التاجر يشتري حقوق مباريات لا دخل له فيها أصلا … فهو لا يلعب، و لا يدرّب، و لا يفني حياته وراء ناد أو منتخب وطن تظن أنه لك و منك … ثم إن هؤلاء المحتكرين يشترون حقوق البث باسم منطقة معينة و هي المنطقة العربية (المنكرون لهذه الصفة يستبدلونها بـ “الشرق الأوسط و شمال إفريقيا”) … فمن أعطاهم حق شراء أرضنا و سمائنا؟ الجزائر و مصر طرحتا هذا السؤال منذ سنوات، فلم يسمعهما أحد، و لم يتضامن معهما أحد !
يبقى الحل الأخير لعامّة الناس هو المقهى … فرجة جماعية وسط سحب كثيفة من أدخنة الشيشة و صراخ التونسيين و قرقعة كراسيهم … هذا إن لحقت بكرسيّ معهم … أي تماما كما كان الأمر منذ نصف قرن مع بداية دخول التلفزيون إلى بلادنا … ألم أقل في البدء إننا أمهر الناس في إلى الوراء دُر ؟