علمت مساء أمس بخبر رحيل أستاذي محمد علي التواتي عن دنيانا، و هزّني الخبر …
مدرّسونا من الابتدائي إلى العالي لهم في وجدان كل منّا مكان مفعم لا يمكن تفسيره … خاصة و فيهم كل الدرجات التي في مجتمعنا بخيرها و شرّها و كرمها و بخلها و إفادتها و ضررها، فهم في النهاية بشر … و لكن حبّي المطلق للبعض منهم ـ و هم قلّة ـ له أكثر من تفسير و تبرير … و لعلّي أضع سي محمد علي في أعمق ما في القلب و العقل معا، رغم أن دراستي عنده لم تتجاوز السنة الواحدة، و رغم أني لم ألتق به بعدها سوى مرة واحدة، و كان ذلك في مقهى “الروتوند” بالعاصمة، و منذ … دعنا من حساب الأيام و الأعوام فالمقاييس صارت فلكية حقا ǃ
عندما وفد علينا هذا الشاب ذو الستة أو السبعة و العشرين ربيعا، كانت معاهدنا و مدارسنا إذّاك عبارة عن ثكنات عسكرية في ظل نظام أمريكي لاتيني … يعني النهر و الزجر غداء و عشاء، و لا صوت للتلميذ سوى الترديد الغبيّ و الهتاف بالموافقة أو الصراخ شبه المكتوم من ضربة أو لطمة من كل من له سلطة و لو كان حارس المبيت … الرأي قبل شجاعة الشجعان و لكن يفترض أن لك رأيا و لا رأي لك بطبيعة الحال … تلك هي المنظومة التي يتباكى عليها بعضنا من جهة بسبب الحنين الذي يجمّل مقابح القديم و لو كان مزبلة، و من جهة ثانية بسبب تدهور المؤسسة التربوية مما يجعلنا نندب الماضي بجميع خطاياه …
من حسن حظنا أننا ـ كتلاميذ ـ استقبلنا أولى أفواج الجامعة التونسية بعد أن كان جيل أساتذتنا الأوّل ركاما من أنصاف المتعلمين و أئمّة الفلقة و العصا، مع بعض المتعاونين الأجانب و ما يحمله بعضهم من إرث استعماري … و لكن ما أن هلّ جيل الخرّيجين الصحاح و المتسلّحين بشهائد علمية حقيقية و انتماء صريح لشباب تونس الوقّاد وقتها، حتى خرجنا مما يشبه الكهف السحيق … و من الصدف الجميلة أن أغلب هؤلاء كان يحمل بين جنباته نار ثورة 68 الشهيرة بفرنسا و سعيها إلى تجديد المفاهيم و العلاقات و النظر إلى العالم على أنه ساحة حب و سلام و حرية … ففيهم من عاد بعد دراسة هناك، و فيهم من وصلت إليه حركة التحرّر عبر جامعيين اعتلوا مدرّجات كلية 9 أفريل العريقة … من قماشة توفيق بكار، صالح القرمادي، ميشال فوكو و رولان بارت …
إلى هذين السطرين الأخيرين ينتمي أستاذنا للفلسفة محمد علي التواتي … خرّيج القمم أعلاه، مع إقامة مطوّلة بجامعة باري ـ سوربون و تحصيل مطالعة شغوف حثيثة تظهر في سعة أفقه و غزارة علمه … و أكداس لا تنتهي من الكتب تحتلّ كامل غرفته في بيت متواضع كان يستأجره مع زملاء له مهووسين بالأدب و الفلسفة و العلوم الإنسانية أمثاله …
و لم يمنعه اطلاعه الوافر، و تشرّبه للمدارس الفلسفية من عهد الإغريق إلى اليوم، و قوة شخصيته التي كان يهابها المديرون و النظّار و متفقدو الوزارة على حد سواء … لم يمنعه ذلك من أن يكون رحيما بنا كتلامذة لا حول لنا و لا قوة، و أن يكسر بيننا و بين “مؤسسة” الأستاذ حواجز لم نكن نتخيّلها … غيّر فينا طريقة التفكير، و اللباس، و الكلام، و طلاقة اللسان، و مضاء القلم … رفض منّا كل الألقاب البروتوكولية بدءا من “سيدي” وصولا حتى إلى “سي محمد علي”، مكتفيا بصفته الأساسية كأستاذ لا غير … و كان التركيز كلّه على فهم المواضيع و مناقشتها في أدق دقائقها و تعلّم طرح الأسئلة … نعم … قبل ذلك لم يكن لديك الحق في النقاش و لا في السؤال عن شيء … اسمع، اكتب، احفظ، و حرر فروضك و امتحاناتك ثم اخرج عند انتهاء الوقت و بعد أن يؤذن لك أو تؤمر بذلك …
تعلّمت منه كل شيء تقريبا، و في سنة واحدة فقط، بل في سنة دراسية قوامها تسعة أشهر ناقصة فترات العطل … تعلّمت منه المناقشة المضنية و السؤال الذي لا يتوقّف … أدين له بذلك غالبا، و أتحسّر أحيانا ـ عندما أرى ما آل إليه الواحد في مجتمعنا ـ على الحرمان من نعمة السكوت و راحة الجهل …
لروحك السلام و الخلود أستاذي العظيم …و لكم أنت بذلك جدير …