في كلّ مرّة يعمد الرئيس إلى أن يقرّب منه مجموعة من أجل إضفاء مشروعيّة على توجّه ما أو مرحلة ما ثمّ في الأخير يلفظهم مثلما تلفظ النّواة و قد تكرّر ذلك منذ 2019 و إلى اليوم …
الصادق بلعيد و أمين محفوظ ليسا أوّل من اكتوى بناره و لن يكونا الأخيرين ورغم النّصائح لتي قدّمت إليهما و التحذير من أنّه سيتلاعب باسميهما ويستغلّ وجودهما لعبور المرحلة و الإيهام بالصياغة التشاركيّة الجماعيّة للدستور … و رغم تنزيههما له في البداية إلا أنّهما شعرا بالغدر في آخر المطاف، فتبرّأ محفوظ من بنوّة ما خرج للعلن و حذّر بلعيد من خطورة المشروع المنشور وصبغته التسلّطيّة الفردانيّة، و ذلك بعد أن خرج مشروع الدّستور من درج مكتب سعيّد مغايرا لما سلّمه له بلعيد الرئيس المنسّق للجنة إعداد الدّستور
خرج مشروعه في نسخة متسرّعة ملأى بالأخطاء الشّكليّة (من حيث التبويب و تكرار بض الفصول) واللغويّة رسما و تركيبا ، و سيمرّ إلى الاستفتاء على هذه الصورة
بصمة الرئيس واضحة في التوطئة و في عديد الفصول بصمة تعكس انفرادا بالرؤية و التّصوّر و ترتيبا للأحداث يوافق هواه و تغييبا لمراحل هامّة من تاريخ الدّولة الوطنيّة الحديثة، لكنّه ينكرها و يفضل عليها مفاهيم أخرى مثل مفهوم الأمّة و محاولة لإرساء بناء جديد قد يعيدنا إلى العصبية العائليّة و القبليّة والعروشيّة التي طالما حاربتها دولة الاستقلال .
يقول الرئيس بأنّ المشروع الذي نشره في الرّائد الرّسمي هو ثمرة الاستشارة الالكترونيّة لكنّه يغفل أنّ هذه الاستشارة لم يشارك فيها سوى 500 ألف مواطن أي أقل من 5% من الجسم الانتخابي … كما أنّه لم يطلعنا على خلاصة الآراء التي وردت فيها و على أعمال اللجنة التأليفية التي وعد بتشكيلها و لا نعلم إن كانت قد تشكّلت أم لم تتشكّل، و كذلك ثمرة الحوار الذي أرساه متناسيا أنّه كان حوارا فولكلوريّا قاطعته أغلب المنظمات الوازنة و قاطعه المختصون في القانون و لم يحضره إلا المتهافتون على السّلطة من أنصار الرئيس … و لكم في نصّ الورقة التي قدّمها رئيس حزب مشارك في الحوار خير دليل على ضحالة مستوى الكثيرين ممن حضروا في قصر الضيافة …. و رغم ذلك فقد بقي هذا الحوار صوريّا وكأنّ الرئيس يغازل به القوى الخارجيّة و المؤسسات الدّوليّة المانحة، فالمشروع المنشور لم يكن بأيّة حال من الأحوال ثمرة أعمال هذه اللجان وفق تصريحات منسّقها
لا يفتأ رئيس الجمهوريّة يندّد في كلّ مرّة بتصرّفات معارضيه في الحكم بدعوى أنّهم يشتغلون داخل الغرف المظلمة، و لكنّه كتب دستوره بمفرده داخل غرفة لا تقلّ ظلاما و ظلاميّة متناسيا أنّ الدّساتير تكتب وفق رؤى و تصوّرات جماعية و نقاشات مجتمعيّة، و تبنى على مشاركة مختلف الحساسيات و القوى السّياسيّة حتى يجد أغلب المواطنين أنفسهم في هذا العقد الذي سيجمعهم طيلة سنوات … أم أننا سنقضي حياتنا في تغيير الدّساتير؟
فهذه النصوص العليا تتوجّه إلى المستقبل و تؤسس من أجل إنسان الغد و لكنّنا من 2011 إلى اليوم نراوح مكاننا في نفس المربع مربع الهويّة و مفهوم الشريعة و مقاصد الإسلام … و لئن نجح المجتمع المدني في تطوير مسودّة دستور جوان 2013 و تمكّن بفضل نضالات نساء و رجال أحرار من الضّغط لفرض مدنيّة الدّولة، فإنّ رئيس الدّولة يبدو أنّه اتعظ ممّا وقع فيه المؤسسون حينما نشروا المشروع الأولي فانفتح في وجوههم باب النّقاش و اضطروا إلى تقديم التنازلات و تغيير بعض الفصول … فعمل على تقليص الآجال بين تاريخ النّشر و تاريخ الاستفتاء و وضع هيئة على المقاس جعلت تواريخ التّسجيل و اتخاذ الموقف سابقة لتاريخ الإطلاع على المشروع المقترح حتى يتمكّن من فرض إرادته على الشعب .
و ما الرسالة التي توجّه بها يوم أمس عبر صفحة الرئاسة إلى الشعب العظيم كما أسماه إلا مواصلة منه لمسار استغلال مؤسسات الدّولة و مواردها لإرساء مشروعه الفردي و فرض رؤيته الخاصّة في دستور يجعل الرئيس في مرتبة تضاهي مرتبة الإله ، دستور يجعل الرّئيس فوق المساءلة و المحاسبة و المراقبة فلا يتحمّل أيّة مسؤوليّة لا قانونيّة و لا سياسيّة … فهل سعيّد أو أيّ رئيس سيأتي بعده، معصوم من الخطأ ليخلو الدّستور من بند يسمح بمحاسبته لا أثناء ممارسته لمهامّه بسحب الثقة منه و لا بعد مغادرته للحكم بمحاكمته أمام القضاء إن أخطأ أو تجاوز صلاحياته … فالرّئيس يعيّن الجميع و يشرف على الجميع ويحاسب الجميع و يقدر على عزل الجميع و لا أحد يحاسبه …
هذا الأنا المتعالي تأكّد كذلك من خلال تدوينة شقيق رئيس الجمهوريّة الذي عاد للظهور ثانية للدّفاع عن خيارات شقيقه و ليجعله في مرتبة فوق المواطنين جميعا
فلا أحد على نفس الدّرجة من الوعي مع رئيس الجمهوريّة بمتطلّبات المرحلة و بمخرجاتها الدّستوريّة على حدّ عبارته … و قد نسي السيّد نوفل سعيّد أنّه منذ 2011 و إلى اليوم تحرّكت مياه كثيرة في بركة الواقع التونسي، و بعد أن كان التطرّق إلى الشّأن العام و التّداول في الجانب السّياسي خاصّة محظورا و خطيرا ” فحتّى الجدران عندها آذان” كما يقال، صار الشّأن السياسي حديث البيوت و المجالس و المقاهي و الفضاءات العامّة و منصّات التواصل الاجتماعي … و لا يمكن أن نعود إلى الصمت من جديد أو إلى القبول بسلطة الفرد الواحد و سياسة فرض الأمر الواقع التي تريد بعض المجموعات المساندة للرّئيس فرضها علينا بالقوّة وبالترهيب، و ذلك بمنع اجتماعات بعض الأحزاب مثلما وقع لحزب آفاق تونس في مدينة الرقاب، أو بطرد السّياسيين و منعهم من التعبير عن آرائهم مثلما وقع في سوسة منذ أسبوع بما يذكّرنا بتصرّفات روابط الثورة في 2012 و 2013