عندما تضيق مساحات الأمل ويتناقص مخزون التونسيين الاستراتيجي من أوكسيجين حبّ البقاء ويملّ الكلام من الكلام وتتعاظم كتلة العابرين إلى الضفة الأخرى ولا نجد من حِيلٍ نافعة سوى النكتة والبهتة والنّهل من مدّخراتنا من الصّبر والجلَد أو ما تبقّى منهما بعد كل العقود والسنوات الوعرة التي مررنا بها،
عندما نبلغ هذا المستوى من فقدان المناعة الفردية الداخلية في طريق ليلية لا تعترضك فيها أية دلائل ضوئية على انفراج قريب في الأفق، يُصيبنا ما يُشبه متلازمة القولون العصبي (وهي حسب القواميس الطبية حالة صحية مزمنة وشائعة تصيب الأمعاء الغليظة وتسبب تقلصات وانتفاخا في البطن) بحيث تتراجع شهيّتنا للأكل والحركة والفرح والكتابة والقراءة ومتابعة الأخبار جميعها… وأمام هذا الشدّ العصبي المُزمن، نلجأ إلى أسلوب أجدادنا في الجلوس الهادئ (بقرار واعٍ) أمام مشهد يعرفون دقائق ما يعتمل فيه ويقدّرون جيدا ألاعيب جميع اللاّعبين وفهلوتهم المكشوفة. تسألهم عمّا يجري فتأتي أجوبتهم بصورة عامة مُختصرة ومُمعنة في رميهم -على طريقتهم- بمعاتبات مُؤنّبة وصاعقة ولكن لا يلتقط لظى سخريتها سوى من كان هدفه حب وطنه بإطلاق لا حبّ ما سيجنيه عندما يقول إنه يحب وطنه.
أنه كان لدينا عنوانا أسطوريّا اسمه “قرطاج” كان من الممكن تثمينه واستثماره وتوظيف أغلى الرّسوم على حق عبور أبوابه بدلا من تحويله إلى “رِتعة” ومرتع وملجإ للفارّين من فُضول الأجوار وتطفّل الأنظار، المدنية منها والأمنية.
وأننا لم نفعل شيئا من أجل شدّ الآلاف من خيرة شبابنا إلى وطنهم الذي حباهم – رغم نُدرة موارده- بتكوين أهّلهم للاندماج بيُسر نادر في المنظومات العالمية…بل لعلّنا فعلنا كل شيء من أجل إحباطهم وتخييب آمالهم وجعلهم لا يثقون البتّة في قدرة بلدهم الذي يعشقون، على النهوض يوما وتوفير بيئة قادرة على استيعاب معارفهم ومهاراتهم ولو بمستويات أجور أقل مرتين أو ثلاث من تلك التي يتقاضونها هناك.
وسنتظاهر زيفا بعد رحيل العمر، بأننا فهمنا الآن أن سنة إضافية واحدة تجتازها مدرستنا دون ترميم، مُرادفها آلاف البطّالين والمُنحرفين والمُلاحقين أمنيا والمُرشحين لاجتياز بحار الموت خلسة والمُهرّبين وأصحاب اللواحق العدلية (بحكم أن المدرسة هي التي كانت تحول أن تكون لديهم سوابق) وكل المُساهمين بشكل نشيط في إنتاج مجتمع يعيش تحت مستوى الجهل والميل الطبيعي إلى الفوضى وعقلية التدمير : تدمير الذات والأسرة والطبيعة وتهديم السقف على الجميع.
وسنعرف يوم المُكاشفة الكبرى أننا أضعنا سنوات ثمينة جدا كان بإمكاننا استثمارها في تصويب صورة “التونسي” التي اهتزّت كثيرا خلال السنوات الأخيرة حتى بِتنا نهمس بجنسيتنا همسًا في مطارات العالم وشوارعه… والحال أننا قادرون تماما على صُنع صورة أخرى لنا ندُكّ بها ترويجاتهم عنّا وتعاليهم الزائف إزاءنا، لأننا نتميّز عن باقي شعوب الأرض بكون السؤال التقليدي “ما هي الخيرات التي يزخر بها بلدٌ معيّن ؟” لا ينطبق علينا نحن التونسيين بل ينسحب علينا السؤال الأكثر إثارة وهو “ما الذي لا تزخر به تونس حتى تكون أجمل وأسعد بلاد الدنيا ؟”.
وسنكتشف كذلك في ساعة متأخرة من ليل العُمر أن عدد التونسيين ضئيل جدا بالمقاييس الأسيوية (خاصة إذا خصمنا منه حوالي 1.816.833 تونسي يُقيمون بصفة قانونية بالخارج أي حوالي خُمس مُجمل التونسيين) وكان من الممكن تماما – لو كانت تونس مقاطعة أوروبية – أن يكون نصيب الفرد التونسي من الناتج المحلي الإجمالي أعلى من اللوكسمبورغ أو إيرلندا أو النرويج.
وسنُدرك بعد فوات الأوان أننا بدّدنا وقتا ثمينا في بعث لجان التحقيق التي تظل تراوح مكانها إلى أن ينسى الناس مواضيع تحقيقها، وإطلاق الاستشارات التي تظل نتائجها رهن الرفوف، وإعلان مشاريع الإصلاح التي تتعطل قبل انطلاقها، وإطلاق النوايا الواعدة التي تغمرها مياه الأحداث فتضحى بسرعة نسيًا منسيّا.
وسنفيق عندما يصبح جسم البلد غير قادر على مزيد تحمّل النكسات والانكسارات، أن بلدانا كنّا نُدعّمها بالخبرة والتجربة والمهارة في شتى المجالات ( في التعليم والمواصلات وتشييد الجسور والطرقات والخدمات السياحية والتقنيات الفلاحية…) قطعت أشواطا متقدمة أكثر منا في صنع شروط مناعتها وسيادتها، ويكفي اليوم أن نتجول في شوارع أثيوبيا أو المغرب أو رواندا أو البلدان الخليجية لنقف على هذه المفارقة.
وسنفتح أعيننا مشدوهين يوم لا ينفع الاندهاش أننا أخفقنا في ترويض كل منعرجات الطريق التي اعترضت مسيرتنا، وأخفقنا كذلك في إنشاء عقلية مجتمعية بنّاءة لا ينتشي أصحابها لمجرّد الاستماع إلى أخبار الإيقاف والإعفاء والإحالة والاستماع حتى كاد الخطاب اليومي للتونسيين يخضع إلى استقطاب ثُلاثي فريد في العالم : فإما معارك طاحنة في الملاعب أو معْمعَات يومية في الدوائر والمحاكم، أو كذلك شبكات تهريب واتّجار خطيرة يُطاح بها على الطرقات العامة. إن العقلية السائدة اليوم لم يعد يُغريها الحديث في مشاكلنا المزمنة إلا من زاوية تقليبها على جميع أوجهها من أجل الاحتفاظ فحسب بما يزرع مزيدا من الشعور بالخيبة والرّيبة والهزيمة.
وسيُفرض علينا عندما تستكمل الحلقة دورتها أن نُحدّق مليّا في مرآة التاريخ وأن نُجيب بدون مواربة عن الأسئلة الفادحة : بماذا نفعنا بلادا أعطتنا بلا حساب وبِم أفدنا الانسانية التي نأكل من فيئها العلمي والتكنولوجي يوميا، وما هي مؤثّثات المشهد الذي سنُورّثه لأبنائنا وماذا كسبنا من الإيذاء المجاني الذي سبّبناه لبعضنا البعض وأية الجنّات الكاذبة التي ستؤوي القتلة والمحرضين على الفتك والهتك وبِأية إنجازات حققناها أو صُروح بنيْناها ستحتفظ سجلات التاريخ ؟
وسيقول عنّا أحفادنا “نهار الكِشفة” إن :
أجدادنا العُتاة برعوا في رياضات مختلفة وأجادوا فنونها مثل رياضة التفرّد بالتقوى والوطنية وتخوين أو تكفير سواهم، ورياضة نفخ الصّدور والجيب المقعور ورياضة توليد خطابات تُسكر قائلها لكنها لا تقول شيئا له معنى، ورياضة “رمي الجُلّة” على أهداف وهمية لا أثر لها على حياة الناس ومعيشهم وتوقهم إلى مغادرة حالة الاستثناء الدائم والسّعد النائم.