طبعا لست من الذين رفعوا عقيرتهم بالصراخ مطالبين بالتراجع عن “الانقلاب”، ستستغرب سيدي الرئيس إن أسميت ما أتيتموه انقلابا …لأني على يقين أنه انقلاب…نعم انقلاب محمود في البعض من جزئياته…لكن على ماذا يا ترى؟ هو أولا انقلاب على ما وقع الاتفاق عليه في اجتماع باريس، فاتفاق باريس كان شبه اتفاق دائم بين الأطراف التي هندسته، فهؤلاء نسوا أو تناسوا أن تونس تعيش على رمال متحرّكة يستحيل معها الحفاظ على استقرار سياسي في أعلى هرم السلطة، ويستحيل معها استنساخ نتائج محطة انتخابية مع محطّة أخرى…
***
وهو ثانيا انقلاب على منظومة أنتم أحد أطرافها الثلاثة…والانقلاب في أبـسط تعريفاته هـو الإطـاحـة بـالـسـلـطـة الـشـرعـيـة بطريقة غـيـر شرعيـة، لكن في حالتنا هذه فالسلطة الشرعية انقلبت على نفسها وغيّرت المواقع، ولها الكثير من المبررات التي تُلزمها بالانقلاب على جزء منها…فلو انتظرتم سيدي الرئيس لشهر واحد فقط لتعلنوا “انقلابكم” لكان الانقلاب شاملا على كل المنظومة ولكان المشهد مخالفا تماما عمّا نعيشه اليوم…أو لكان انقلاب بقيّة أجزاء المنظومة عليكم سيدي الرئيس…ولأصبحتم في عداد العاطلين عن العمل، السياسي طبعا…وثالثا هو انقلاب ستحصدون كل ثماره وستستفيدون منه …لكن هل سيحصد الشعب معكم شيئا يا ترى، وهل سيستفيد مما فعلتم سيدي الرئيس…ورابعا هو انقلاب عقابي نأمل أن لا يزيد الطين بلّة…فأنتم عاقبتم بعضكم أو جزءا من منظومتكم بسبب فشلها في القيام بما يقع على عاتقها، وهنا علينا أن نسأل أيضا، هل قمتم أنتم بما يقع على عاتقكم ألستم أحد أضلع هذه المنظومة؟ وهل ستقبلون بعقاب الشعب غدا إن أخفقتم في ما يقع على عاتقكم؟ فأنتم لا تمتلكون تلك العصا السحرية للنجاح…والنجاح غير مضمون بعد كل ما حصل في البلاد خلال عشرية كاملة من التخريب والتدمير الممنهج…
***
إذن سيدي الرئيس، أنتم أكبر المستفيدين مما حصل ويحصل اليوم، فأنتم استحوذتم على كل السلطات لمدّة معلومة قابلة للتمديد، ستغيّرون خلالها ما يعرقلكم عن أداء عملكم وإنجاز بعض وعودكم لمن انتخبوكم، والله يعلم أننا لا نعلم إن كنتم ستمدّدون في مدّة “استيطان” السلطة إلى ما لا نهاية أم ستعيدون البعض من “مستوطنات” الحكم إلى من افتككتم منهم نصيبهم من السلطة والحكم…فبالفصل 80 من الدستور انقلبتم على من انقلبوا عليكم…وغدا بالفصل 163 من القانون الانتخابي قد تخرجون الجميع من تحت قبّة باردو وقد تقايضونهم من أجل مصلحة عليا لوطن يتألم…فأنتم وسعتم صلاحياتكم…لكن ضيّقتم الخناق على أنفسكم دون أن تكونوا على بيّنة من الأمر…فاليوم أنتم من سيحاسبه الشعب عن كل فشل أو انهيار … ولا أحد غيركم…
هل ستنجحون في ابعاد أصحاب الولاءات الأجنبية وهم كثر في مشهدنا؟ هل باستطاعتكم أن تساعدوا البلاد على أن تنهض من جديد بين كل هذه الأنقاض، وبعد كل هذا الدمار والانهيار؟ هل بإمكانكم، وهل ستنجحون في تغيير عقلية ساستنا من عقلية السمسرة إلى عقلية النزاهة؟ هل ستغامرون وستكون لكم الشجاعة في أن تقولوا لا للاتحاد وأن توقفوا مهزلة الاقتطاع الآلي…وهل…وهل…كلها أسئلة نسمعها اليوم من ألسنة المواطن المسكين…فالمواطن التونسي اليوم يحقّ له أن يحلم…ويحقّ له أن يرى أحلامه تتحقّق…فمجرّد ابعاد النهضة عن المشهد الحاكم كان حلما…فأصبح حقيقة…
سيدي الرئيس، مشكلة هذا الشعب ليست في ما فعلتموه إن كان انقلابا أو فقط عملية إنزال سياسي من أجل توسيع صلاحياتكم وتغيير ما لا يمكن تغييره تحت قبّة باردو…المشكلة تكمن في أن السلطة التي انقلبتم عليها وأوصلتنا إلى ما نحن فيه هي سلطة فاسدة ساقطة ومجرمة لم تلتفت يوما لوجع شعبها…ولم تكترث بمآلات أفعالها…فهذا الشعب لم يعد يكترث من يكون رئيس الحكومة ومن يكون الوزير، ومن يكون من حول الوزير فالنتيجة عندهم واحدة، ولن يتغيّر حالهم بمجرّد تغيير الأسماء…فالشعب يعيش منذ عشر سنوات أو يزيد في قبضة سلطة قتلت شعبها وخربت اقتصاد بلدها…دمرت القضاء والتعليم والصحة…وكل القطاعات المنتجة وغير المنتجة…أحبطت جيلا بأكمله أصبح يجد في الانتحار غرقا في المتوسط حلاّ لجميع مشكلاته…
***
هل تسمحون سيدي الرئيس أن أسألكم، وأنا على يقين أني قد أُعدم أو قد أُسجن أو قد أحَاسب حسابا عسيرا من أجل تطاولي على مقامكم، ومقام انقلابكم بأسئلتي هذه وبما كتبت، وأنتم اليوم تملكون كل تفاصيل الحكم وكل ما يسمح لكم بالاستبداد إن أردتم طبعا ولا أظنّ أنكم ستستبدون يوما…ولأني سُعدت بالانقلاب كأغلب أبناء هذه البلاد…ولكل سبب سعادته، فأغلب من خرجوا يبايعونك يوم أعلنتم الاستحواذ على بقية السلط، خرجوا فقط لأنكم أبعدتم النهضة وشيخها عن هرم السلطة والحكم…ولا أحد منهم حين خرج فكّر في الوطن وفي انهيار البلاد اقتصاديا وسياسيا…جميعهم نسوا أن النهضة ومن معها تسببوا في كل ما نحن فيه ووجب محاسبتهم قبل ابعادهم…جميعهم وقعوا في الفخّ…هذا الفخّ الذي نعاني منه منذ انتخابات 2014 …فالباجي استعمل النهضة للوصول إلى الحكم ثم أجلسها إلى جانبه وجالسته وداعبها وداعبته حتى مات رحمه الله وأورثنا تركة مؤلمة أوجعتنا كثيرا…وبعض الأحزاب اليوم تستعمل النهضة أيضا لرفع حجم مخزونها ومضاعفة عدد أنصارها…وأنتم اليوم سيدي الرئيس تدغدغون مشاعر وأمزجة أتباعكم وأنصاركم وبقية مكونات المشهد بضربكم للنهضة وشيخها…أتدرون سيدي الرئيس أن هناك من كانوا سببا في ما نحن فيه بحجم النهضة أو أكثر وليسوا من الأحزاب…أتدرون…
شخصيا لست ضدّ ما فعلتم لكن خوفي من الآتي هو سبب ما كتبت…فأنتم في نهاية الأمر أنقذتم البلاد حتى إشعار آخر…لكنكم أيضا أنقذتم النهضة ومن معها ووضعتم الحبل، وأقصد حبل مسؤولية وتبعات الحكم الذي كان يلف رقبة المنظومة وعلى رأسها النهضة برقبتكم…فأنتم من سيتحمّل مستقبلا جوع الجائع…وبكاء المظلوم…وخيبة الفشل…ومرض المسنّ…وألم فراق الشهيد…ونحيب الثكالى…وغيرها من أوجاع الشعب والأمة…فأنتم اليوم “مولاها” ومن يتحمّل كل أوجاعها وأوجاع شعبها…فهل أنتم على بينة مما فعلتم وما تفعلون؟ فأنتم، وأنتم فقط بعد أن هربت النهضة ومن معها بجلدها …أقول أنتم فقط من ستحاسبون عن فشل أو نجاح هذه العهدة وهي إلى الفشل والخراب أقرب بما تركته لكم منظومة الخراب…وأظنكم واعين بهذا الأمر وما ينتظركم…
سيدي الرئيس ليس أمامكم الكثير من الوقت وأنتم أمام أصعب مهامكم، وطريقكم ستكون مزروعة ألغاما…وفخاخا…وعليكم وهذا الأهمّ أن تحقّقوا وفي زمن قياسي إنجازا ولو صغيرا ترسلون به رسالة طمأنة للداخل والخارج…فدون طمأنة لا أظنّ أن هذا الشعب الموجوع سينتظر كثيرا قبل العودة إلى الشارع…ولا أظنّ أنه لو خرج سيعود قبل تغيير ما يراه صالحا لأجيالنا القادمة…
هم سعدوا لأنكم أبعدتم النهضة…وأنا سعدت بما سعدوا لكن سُعدت أكثر لأنكم أقلتم المشيشي السبب الأكبر لما نحن فيه…لكن هل هذا كل ما نريده فقط منكم سيدي الرئيس؟ هل أن مشكلاتنا هي فقط كيف نُبعد المشيشي لأنه انقلب علينا وارتمى في أحضان شيخ النهضة…وهل أصبحت النهضة وطنا حتى تكون هي مشكلتنا ألم تفسد في الأرض عشر سنوات؟ أنسيتم أن النهضة أعطتكم نصف مليون من أصواتها لأنها كانت ترى فيكم شبيها بمن سبقكم على كرسي قرطاج…أنسيتم أن المشيشي هو من وقع عليه اختياركم؟ إذن فأنتم اليوم انقلبتم على من كانوا إلى وقت غير بعيد سندا لكم، فهل لكم القدرة على تحمّل تبعات الفشل وهو الأقرب من كل الفرضيات الأخرى غدا… فمن كانوا سندا لكم أصبحوا خصوما يحاربونكم بما أوتوا من قوّة؟
***
هل ستخرجون البلاد من أزمتها؟ وهل ستنجحون في حلّ أغلب معضلاتها… المديونية… تراجع مخزوننا من العملة… شلل تام في الاستثمار والتنمية… المعاناة الاجتماعية… الحاجة الى الاصلاحات…هل ستنجحون في مقاومة الفساد وهو جزء هام من المنظومة الحالية؟ هل سترفعون المظالم التي ارتكبت في حقّ كل كفاءات البلاد سنة 2011؟ هل ستنجحون في كسب معركتكم الأولى والأهمّ اليوم، حربكم على الوباء؟ والأهمّ هل ستنجحون في مصالحة هذا الشعب بعضه ببعضه…هل ستنجحون في تخفيض نسبة الحقد التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم؟ أتدرون أن سقف انتظارات هذا الشعب أصبح مرتفعا جدا فهل سترفعون التحدّي؟
***
سيدي الرئيس…شعبكم وأنصاركم واتباعكم، ومن أسكرتهم “خمرة” قراراتكم، فخرجوا دون وعي منهم، دون احترام لبرتوكول التباعد الجسدي ولبس الكمامة، يبايعونكم ويصرخون “الله احد وقيس ما كيفو حدّ” سيستفيقون من سكرتهم بعد أن تُكملوا وضع بقية تفاصيل تحويل ملكية مستوطنات الحكم باسم مقامكم، أقول شعبكم سيخرج ليطالبكم بما وعدتموه…وبدفع الدين الذي بذمتكم….أتدرون سيدي الرئيس…أن العاطل سيسألكم عملا…وإن لم يجد فسيدير وجهه عنكم….والمظلوم سيسألكم العدل فإن لم تعدلوا بسبب أو بآخر… فإنه سيدير وجهه عنكم…والمريض سيسألكم توفير مصحة أو مستشفى بقريته لأن زوجته ماتت وهي في الطريق إلى العاصمة لإجراء عملية قيصرية…فإن لم توفروا له ما يريد …فإنه سيدير وجهه عنكم…والمسجون ظلما سيسألكم العفو فإن عجزتم …فإنه سيدير وجهه عنكم…والذي نهبت الدولة أمواله سيسألكم حقّه فإن أبيتم…فإنه سيدير وجهه عنكم…ومن منعوا عنه جواز سفره سيسألكم حقّه، فإن رفضتم…فإنه سيدير وجهه عنكم…وأبناء الشهيد الذين يموتون جوعا سيسألونكم دم والدهم، فإن أطلتم الردّ…فإنهم سيديرون وجوههم عنكم…والمدوّن الذي سجنتموه ظلما سيسألكم عدلكم، فإن أدرتم له وجهكم…فإنه سيدير وجهه عنكم…والكفاءة التي ظلمت وحرموها من ترقيتها وجُمدت في رتبتها ستسألكم عدلكم وحقّها، فإن تغافلتم…فإنها ستدير وجهها عنكم…والجائع الذي لم يجد قوت يومه وما يسدّ به رمق أطفاله سيسألكم مالا وصدقة، فإن أبيتم…فإنه سيدير وجهه عنكم…هذا جزء بسيط مما ينتظركم سيدي الرئيس…فهل أنتم واعون بما فعلتم…وهل أنتم على وعي بما ينتظركم وما ستفعلون؟
سيدي الرئيس، وأنتم تستعدون للإعلان عن حكومتكم…أول حكومة ستختارونها بالكامل…هل فكّرتم فعلا في كفاءات البلاد التي أبعدت….وكفاءات البلاد التي شرّدت…وكفاءات البلاد التي ظلمت…أتحتاج هذه الأرض إلى كل أبنائها…سمعنا كثيرا في أغلب خطبكم عن العدل…وعن الحقّ…وعن نظافة اليد…لا أحد منّا …وليس خوفا ولا مدحا يشككّ في نظافة يدكم… وفي نزاهتكم…فهل أنصفتم من ظلموا…وأياديهم نظيفة…وهل أنصفتم كفاءات المنظومة السابقة التي تواصل المنظومة التي انقلبتم عليها هرسلتَهُم والتنكيل بهم كل أسبوع بالمحاكم…أتريدون أن يحبكم الشعب…كل الشعب…أعدلوا بين من كانوا في الحكم قبل 2011 ولم يفسدوا وبين من حكموا بعد 2011 ولم يفسدوا….ونحن نعلم أنكم تعلمون أن من أفسدوا بعد ذلك التاريخ هم أضعاف أضعاف من افسدوا قبله…
***
سيدي الرئيس، سيحوم حولكم الكثيرون…وسيتقرب منكم الكثيرون…وسيهجر بعضهم أحزابهم ولودّكم سيخطبون…سيجتمع حولكم الكثيرون وفي بعض المواقع يرغبون…منهم من هم من عائلتكم…ومنهم من هم من اصهاركم…ومنهم من هم من أصدقائكم…فلا تستمعوا إلا لما يمليه عليكم ضميركم…والحقّ…فكل من سبقوكم هناك على كرسي بورقيبة العظيم…وبورقيبة نفسه… خُدعوا…من أقرب الناس إليهم…فأخطأوا كثيرا…ولم يعدلوا في بعض الحالات…وظَلموا دون أن يعلموا أنهم ظَلموا…فاعتبر سيدي الرئيس…اعتبر من كل أخطاء من سبقوك…
***
سيدي الرئيس الأكيد أنكم قرأتم في أسباب ما نحن فيه…والأكيد أنكم شخّصتم الوضع جيدا…فليست الأحزاب وحدها التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه… ابحثوا عن الأسباب…فمن يا ترى أوقف انتاج نفطنا…ومن يا ترى عطّل انتاج فسفاطنا…ومن يا ترى اغلق معاملنا…ومن يا ترى خرّب اقتصادنا…ومن يا ترى أبعد عنّا استثمارات الأجانب بيننا…ومن يا ترى ضاعف حجم كتلة أجورنا…ومن يا ترى ساهم في إضعاف إنتاجنا…ومن يا ترى قطع طرقنا…ومن يا ترى يجلس مع كل حكوماتنا يفرض خياراته عليها…ويشاركنا الحكم في أدقّ أدقّ تفاصيله…
***
سيدي الرئيس، سيقايضونك في ألف قضية وقضية…وسيضيّقون عليك الخناق يوم ترفض طلبا لهم…وسيهددونك بالإضراب العام وغلق مواقع الإنتاج…فأعلن قبل فوات الأوان…أعلن مواقع انتاجنا مواقع عسكرية… فجيشنا الوطني هو ضمانة الدولة والأمن والاستقرار…
سيدي الرئيس، لا تلوموني فأنا لست ممن يحبون الثناء ويجيدون المدح، لذلك فلا تنتظروا مني ثناء ومدحا…فأنا لست ممن يتملقون ليخبروكم بما تظنونه عن نفسكم وهو ربما ليس فيكم، طمعا في موقع أو ترقية أو مال…
سيدي الرئيس أختم رسالتي لأقول أن السمك يفضّل الديدان لذلك عندما أذهب للصيد لا أفكّر في ما أريده أنا من لحم ومن فاكهة بل في ما يريده السمك…لذلك أقول لكم سيدي الرئيس، استعملوا نفس الإدراك لكسب الرجال زوّدوا الصنّارة بما يناسب السمك…وأضيف…حدّثوا شعبكم بما يرغب فيه لا بما ترغبون فيه أنتم…وأكشفوا له الحقيقة الكاملة عن وضع البلاد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا…فهو ينتظر الكثير…في زمن قصير…فقد يهادنكم…ويصبر عليكم…إن أخبرتموه بوجع الوطن…هو يريد منكم أن تروا ما يرى…وأن تسمعوا ما يسمع…وأن تقولوا ما يقول…وأن تشعروا بما يشعر…دون ذلك فلن يهادنكم…ولن يصبر…