محمد الأطرش:
كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل حين اختارت احدى القنوات الاذاعية التي أدرت الزرّ اليها صدفة ودون سابق اضمار ولا اشعار لأجد مطربنا علي الرياحي رحمه الله في احدى أجمل أغانيه…
الرياحي كان يقول ويمتعنا بـــ “علاش تفكر في ماضينا ما تفكرشي… ما تفكرشي …سلم ّأمرك للحنان …و قووووول ان شاء الله زينة زينة” وكأني بالمسكين يعيش بيننا اليوم فأغلب سكان هذه البلاد يئنون …يتوجعون… يبكون… ويشتكون من سوء أحوال جيوبهم وعدم قدرتها على الحفاظ على من يزورها من أوراق المرتّب كل آخر شهر… وكأني به يقول لنا لا تأبهوا للمال والأموال فالأحوال بيد خالقها وقولوا لمرتبكم إن خيّر مغادرة جيوبكم والهروب برّا وبحرا وجوا من سوء الأحوال فيها “ان شاء الله زينة …زينة“…
المسكين لا يعلم بأننا نغني هذه الأغنية كل شهر ومع حلول اليوم العاشر منه فمرتباتنا خفيفة الروح لا تثقل علينا البقاء في جيوبنا فتختار مغادرتنا مبتسمة سريعا على المكوث في جيوبنا ودفء جيوبنا مكشّرة عن أنيابها ودون دعم ومساندة…قلت في خاطري وكأني بسيدي علي يعرف من زمان ما سنعانيه وما سنعيشه نحن الأجيال التي جاءت بعده…ألم يغن للعاطلين عن العمل “عايش من غير أمل في حبك…تعذيبي ودمعي من أجلك” وهم يناجون العمل الذي لم يزرهم ولم يأبه لأوجاعهم ومعاناتهم وهم يعيشون البطالة لعشرات السنين…وهم يسمعون الوعود من كل الحاكمين بأمرهم يسارا ووسطا ومن أحزاب الخراب إلى أحزاب اليمين…
ألم يغن “ياللي ظالمني …والروح معاك” وكان يقصد بها الموظف المسكين الذي عانى الأمرين وهو في خدمة مديره وحين وجب تكريمه بخطة وظيفية أهداها “مولاه” لمن بايعه وصفق له واستثناه…ألم يغن “تكويت وما قلت أحيت هزيت الجمرة بايديا” وأظنه كان يقصد بعض من فقدوا فلذات أكبادهم بحرا وهم يبحثون عن وطن يعوضهم وطنا خذلهم في توفير لقمة عيش تغنيهم عن ترك ارضهم وأهلهم ووطنهم…وكأن سيدي علي رحمه الله يعرف أيضا معاناة الكوني ابن عمّتي مع خطيبته ألم يغن له “احترت آش نهديلك يا حلوة يوم العيد قرب…أجمل ما في الدنيا عندك آش ما زلت تحب” فالكوني ابن عمّتي وعد خطيبته أم الخير بأن يهديها كيلوغراما من “الغْرَيْبة” يوم عيد ميلادها ورطلا من “محشي” تطاوين فخذله مشغّله “الشاف شانطي” ولم يمكّنه من راتبه إلا بعد مرور عيد ميلاد خطيبته أم الخير…ما أروع سيدي علي يفكّر حتى في معاناة الكوني أبن عمّتي يا لإنسانيته وطيبته ويا لحظك يا كوني المنتِّفْ…”الله يرحمك يا سيدي علي”…
والغريب في ما غناه سيدي علي قصّة الحب بين الرئيس قائد السبسي رحمه الله والنهضة حين أوعز إليها بأن تختاره رئيسا عوض المرزوقي بعد تركه “دار الباي” وبعد انتخابات التأسيسي فاختارت المرزوقي… فكيف علم سيدي علي بأمر تلك القصّة وغنّى للباجي حين نجح في انتخابات 2014 وحين راودته النهضة عن التوافق معه والعمل معا اليد في اليد “جريت وراك وخنتيني تبعتك حتى للأخر واليوم حبيت ترضِّيني لكن توا خلطت موخِّرْ…” يا لغرابة ما غنيت يا سيدي علي…فجأة ودون سابق إنذار يتغيّر الصوت الذي يصلني من مذياعي الصغير الذي يرافقني أحيانا لأجد صوت الهادي الجويني رحمه الله وهو يشدو بـــ”لو كان موش الصبر يطْفي ناري” وكأني به يخاطب فريق كرة قدم من العاصمة غابت عنه التتويجات لسنوات، يا سلام سي الهادي كان يتابع المشهد الكروي في تونس بشغف وأطربنا بعد وفاته بأغنية عن فقير الحال الفريق الذين يمكن اعتباره من ذوي الاحتياجات الخاصة ومناطق الظلّ الكروي…واصل الهادي الجويني رحمه الله تمتيعي بما يطربني فبعد أن غنى لفريق من العاصمة وكأني به أراد ان يتوجّه لحركة النهضة بأغنية يذكرها فيها بانها فشلت في ما اختارته حين مسكت بتلابيب الحكم فغنى “كي بغيت تطير يا حمامه…” ثم لم يقف عند النهضة فغنى متوجها لمنظومة الاستقلال بأغنية جميلة “اللي تعدّى وفات…زعمة يرجع…“…
لم أدر زرّ المذياع…ولم ألمسه حتى… لكنه فاجأني بطرب آخر ليس تونسيا وكأن أحد من لا أراهم بالعين المجرّدة أدار زرّ المذياع ليطربني ويمتعني بما جاد به من ماتوا ممن كنّا نستمع إليهم وهم احياء من المطربين…فجأة يصلني صوت نجاة الصغيرة أطال الله عمرها وهي تغنّي “مهما الأيام تعمل فينا… مابنستغناش عن بعضينا” وكأني بها تغني لإخوتنا في المغرب وهم يتغنون بالصحراء الغربية التي عادت جزءا لا يتجزأ من أرضهم… غريب أمر أغاني زمان جميعها مستوحاة من زمان جاء بعد زمانهم… ويواصل مذياعي تمتيعي بما جادت به ذاكرته وهذه المرّة وكأني بعبد الوهاب رحمه الله أراد ان يتوجّه للعرب…كل العرب بلوم عن خذلانهم لأهل من خُربت ديارهم وشردوا ونكل بهم وبصغارهم بأغنية “أيها الراقدون تحت التراب…” يا سلام يا عبد الوهاب حتى انت…
بعد متعة عبد الوهاب رحمه الله …شعرت بهزّة أرضية خفيفة وأنا استمع إلى زياد غرسة وهو يغني “طهّر يا المطهّر صح الله يديك…لا توجع وليدي لا نغضب عليك…طهر يا المطهر بالموس الرقيق…لا توجع وليدي …قلب أمه رقيق…” يا سلام يا مذياعي الطيب…فزياد غرسة يتوجه إلى جميع من خطبوا فينا أثناء الحملات الانتخابية منذ أربعة عشر سنة وهو يعدون ويتوعدون بالتطهير…تطهير المؤسسات…تطهير الوزارات…تطهير الصحة…تطهير التعليم…تطهير الاقتصاد…تطهير الرياضة…تطهير كل القطاعات…وجميعنا ومن كثرة ما استمعنا إلى هذه الكلمة “وضعنا ايادينا لنحمي مناطقنا الحساسة كما يفعل جدار المدافعين في كرة القدم حين ينفّد روبرتو كارلوس مخالفته…يا الله…
ومن كثرة استماعنا إلى خطاب التطهير خلال انتخابات التأسيسي، أخذت الشعلاء أخت الكوني ابن عمّتي ابنها غير المختون إلى المترشح الذي رفع شعار التطهير لغاية ختانه… فالمسكينة كانت تمنّي النفس بأن تختن ابنها دون تكاليف وأن يتحمّل المترشح المعني بالأمر عناء ووزر ختان ابنها في إطار برنامجه الوطني للتطهير…وهي نفسها أيضا التي أرسلت بمراسلة إلى هذا المترشح طالبة منه ربط منزلها بشبكة التطهير…وكان الكوني ابن عمّتي يداعبها بقوله “سير سير سير …سير يا لزرڨ سير” …