السّادسة صباحا … المدينة مازالت تتمطّى لتستيقظ على مهل تحت وطأة الحرارة الخانقة و دخول نصف التّلاميذ و الطّلبة في عطلة …
و حركة المرور مازالت خفيفة … كنت أسير نحو وجهتي البعيدة .. و كلّما مررت بإحدى الإدارات أو مراكز البريد، لاحظت الصفوف الطويلة للمواطنين أمامها رغم أنّه مازالت تفصلنا ساعتان عن التوقيت الرّسمي لبداية الدّوام …
نساء و رجال ، كهول و عجائز وقفوا تحت الظلال الشحيحة لجدران المباني الإدارية المتآكلة ينتظرون فتح الأبواب، في حين افترش بعضهم الأرض إعياء و وهنا و جميعهم يمتّع بصره بجحافل الذّباب و النّاموس الّتي تحوم حول أكداس النّفايات و يعطّر أنفه بروائح النّفايات المتراكم بعضها منذ أشهر … بعد أن تحوّلت صفاقس من عاصمة الجنوب إلى عاصمة الزّبلة … و عجزت الدّولة بكلّ أجهزتها و وزرائها و مستشاريها و رئيسها عن إيجاد حلّ لمشكل يتفاقم يوما بعد يوم منذ سبتمبر الماضي … رغم المقترحات و الحلول العديدة و المتنوّعة التي تقدّم بها المجتمع المدني في الجهة …
في هذه الطّرقات و أمام هذه المباني رأيت شعبا آخر غير ذاك الذي تعوّدت ملاقاته و محاورته و مجادلته على صفحات التواصل الاجتماعي .. شعب طحنه الواقع و اليومي و لا أظنّ أنّه ليلتها انتبه إلى قرار الرئيس بعزل 57 قاضيا بجرّة قلم ما أحوجنا إلى مثلها لاتخاذ قرار بعزل آلاف الأطنان من النفايات …
شعب يجري وراء القوت و خلاص الفواتير و الأوراق الإدارية و يعاني من انقطاع الماء و الكهرباء و ارتفاع النّفقات ، شعب يبكّر لقضاء شؤونه و لا تعنيه أسماء المعزولين و لا تهمّه حيثيات الإقالة و لا مدى استجابتها للمعايير الديموقراطيّة و لا يبالي بما يقع في أعلى سدّة الحكم بعد أن تتالت خيبات الأمل لديه وكره السياسة و السياسيين الذين لم ير منهم غير صراع الديكة و التكالب على المناصب و لم يعش من ورائهم غير التراجع في مقدرته الشرائيّة و تدهور أوضاعه المعيشيّة .. سئم النّقاشات و الحوارات والمناكفات و أرهقته الإضرابات و الاضطرابات و لم تعد تحرّكه الاحتجاجات …
و شعب آخر مهتمّ بالشّأن السياسي متابع لتطوّراته اليوميّة يبدي رأيه في قرارات الرّئيس و مشروعه ويعبّر عن موقفه من الاستفتاء القادم و من هيئة الانتخابات المنصّبة و من طريقة الحوار المقترح و يدافع بعضه عن توجّهات الرئيس و يعارضها بعضه الآخر و يخوّن بعضه البعض الآخر في خطاب متوتّر موتور ونزعة انتقام و تشفّ غريبة و يتّهم بعضه بعضا بالخيانة و العمالة و يحتكر كلّ طرف لنفسه صفات الصّدق والوطنيّة .. شعب ينطلق بعضه من الرّغبة في تحقيق مصالح ذاتيّة آنيّة و الانتقام من منظومة راكمت الفشل و يتمترس بعضه الآخر وراء مواقف مبدئيّة و دفاع عن أفكار و تمشّيات مهما كان اسم الممسك بالسّلطة …
و لئن كان الاختلاف محمودا و مقبولا و بنّاء في أصله فإنّه في بلادنا تجاوز حدود المعقول حينما صارت كلّ جهة تجنّد صفحات مأجورة لمهاجمة الآخرين و توجيه أقذع الأوصاف و التّهم إليهم ..من الذباب الأزرق الذي تخصص في مواجهة الخصوم و توجيه الرّأي العام إلى الذّباب القيسوني الذي تخصّص في نشر الوثائق السرية للدّولة و التحريض على ناقدي الرئيس و معارضيه ..
و لئن تفنّن أتباع المعبد الأزرق العشريّة الماضية في تشويه الاتّحاد قولا و فعلا (وضع القمامة أمام مقرّاته) و ناصرهم في ذلك جماعة ائتلاف الكرامة (حادثة سروال العفّاس) فإنّ أنصار الرئيس قد أخذوا عنهم المشعل اليوم بالتّهديد و السّحل الالكتروني و تأليب الرّأي العام بعد أن رفضت قيادات الاتحاد المشاركة في الحوار- الذي تنطلق أولى جلساته اليوم – بصيغته الحاليّة و طلبوا ضبط رؤية تشاركيّة رفضها الرئيس الذي يصرّ على المضي قدما بصورة فرديّة نحو تحقيق مشروعه و لا ندري إلى اليوم هل سيعير نتائج هذا الحوار اهتماما أم أنّه حوار صوري لذرّ الرّماد على الأعين و شكل من أشكال الاستجابة المراوغة لطلبات صندوق النّقد الدّولي …
و في الأثناء تتواصل المفارقة بين شعب الواقع و شعب المواقع .. ففي حين ينتظر بعض الشّعب نتائج الحوار و ملامح الدّستور الذي سينتج عنه، يواصل البعض الآخر من الشّعب الغرق في تفاصيل اليومي والجري وراء لقمة عيش صارت بطعم الحنظل .