إن كان لي من أمنية هذه الأيام فإني أتمنّى أن أجري حوارا مع السيد رئيس الجمهورية ، حوارا خاصّا لن أسأله فيه عن مستشاريه و لا عن توجّهاته و لا عن تعييناته الأخيرة و لا عن راهن البلاد و مستقبلها …
سأسأله فقط عن طفولته و كيف قضاها ، عن الألعاب التي مارسها ، الصداقات والعلاقات التي كوّنها ، سأسأله عن البدايات عن الرّوضة و المدرسة و الحيّ .
سأسأله عن حيوانه المفضّل و زهرته المميّزة ، سأسأله عن النّجوم عن الشمس والقمر..
سأسأله عن علاقته بوالده و والدته ، بأشقائه وأصدقائه ، بزوجته و أبنائه ، عن خطاياه الصغيرة ، عن علاقة الحبّ الأولى ، عن القبلة الأولى و السيجارة الأولى . سأسأله عن آرائه في الحب في الحياة في المرأة في الوطن ..
سأسأله عن أوقات فراغه قبل الرئاسة فيم كان يقضيها و أين كان يقضيها ، عن أحلام الشباب و الصّبا ، عن اهتماماته الصغيرة عن روتينه الصباحيّ وعاداته اليومية البسيطة ..
سأسأله عن قراءاته و مطالعاته ، عن كاتبه المفضل و أكثر الكتب تأثيرا فيه ، سأسأله عن الرياضة التي يشجّعها واللعبة التي يمارسها ، عن أغنيته المحبّبة و أقرب الفنانين إلى قلبه ، عن معارض الرسم التي زارها و المتاحف التي جال فيها ، عن أهمّ الآثار التونسية التي تلهمه و الأماكن الطبيعية التي تسعده .
لن أطرح سؤالا سياسيّا واحدا فهذه الأسئلة تكفيني فأنا أريد أن أكتشف الإنسان و أترك للمختصّين في علم النفس والاجتماع أمر تحليل شخصيّته و استقراء ميولاته …
و إن كان إجراء الحوار غير ممكن فإنّ من الأشياء التي تغريني أيضا للتعرّف على شخصيّة الرئيس هي أن يتطوّع بعض المختصّين في لغة الجسد بتفسير حركاته وإيماءاته و خاصة تركيزه في الفترة الأخيرة في مختلف المناسبات والسياقات على استعمال قبضة اليد المضمومة التي تقول بعض الدراسات إنها تدلّ كثيرا على التوتّر و الغضب ويعاني صاحبها في حينها من توقّف سلاسة الأفكار و يستخدمها عادة في شحن الآخرين بالغضب و الثّأر ، و يقول محللون آخرون بأن هذه الإشارة تحيل على معاني “حكم الشعب” أو “التضامن و الاتحاد” أو “السيطرة على العالم ” أو “التغيير لا يكون إلا بالقوّة و العنف” . و يُرجِع المؤرّخون ظهور هذا الشعار إلى الثورة البلشفيّة سنة 1917 في الاتحاد السوفياتي ثمّ تبناه الإيرانيون في ثورة الخميني عام 1979 ليتكرّر استعمال هذه القبضة في بداية الألفيّة الثانية مع ما يُسمّى بالثّورات الملوّنة ثمّ في ثورات الربيع العربي
فماذا يقصد سعيّد من وراء هذه القبضة المضمومة ؟ هل يستعملها واعيا متعمّدا ؟ إلى من يتوجّه بها ؟ هل يخاطب بها أنصاره أم يوجّهها إلى أعدائه المفترضين ؟
لفك شيفرة سعيّد لا الكلمات التي نستمع إليها تنفع و لا الخطابات الرّنانة التي يطلع بها علينا قادرة على إيصالنا إلى عمق الشخصيّة ، فنحن إلى اليوم لا نعرف من ذا الذي يتخفّى وراء الوجه المتجهّم الذي يُطلّ علينا في غالب الأحيان غاضبا عابسا مهدّدا متوعّدا فلم لا نلجأ إلى العلم لتحليل الشخصية و فكّ رموزها؟ …
منذ 25 جويلية ـ و بعد أن كنّا سابقا نبحث عن رئيس الجمهورية لأيّام دون أن نجد له نشاطا يُذكرـ صرنا نتابع خطاباته يوميّا بل أحيانا أكثر من مرّة في اليوم الواحد و هو أمر نجد له تفسيرا في ظلّ الظروف الاستثنائيّة التي تعيشها البلاد .
هذه الخطابات اليومية ما فتئ يذكّر فيها بالأسباب التي دفعته إلى ذلك التأويل الخاص الذي تعامل به مع الفصل 80 من الدّستور و يشكّك في المؤسسات القائمة و يؤكّد على محاسبة كل المارقين و رموز الماضي الذين سيحترقون مثلما تحترق غابات الشمال الغربي و الذين ستأخذهم “غسّالة النّوادر” السياسية لتُلقي بهم في بالوعات التطهير
خطابات لا يتحدّث فيها بلغة الأرقام و لكنّه يطنب في استعمال الإيحاءات و التّوريات و المجاز الأدبي فيدغدغ مشاعر أنصاره و مريديه و يندفعون وراءه مطالبين بالمحاسبة التي تعكس أحيانا رغبة في الانتقام بل أكثر من ذلك صاروا يهرسلون و يخوّنون من لا يوافقهم الرأي و يضعون الجميع في سلة واحدة فكل من تقلّد منصبا أو حظي بموقع أو اكتسب أموالا هو في عرفهم فاسد لابدّ من محاسبته و الزّجّ به في السجن …
و نخشى أن تكون خطابات الرئيس في الفترة الأخيرة سببا في توتير الوضع في البلاد و إشعال نار الفتنة بين المواطنين
فنحن و إن سلّمنا بنظافة يد الرجل و صدق نواياه و رغبته الحقيقية في إصلاح حال البلاد ، فإنّ النّوايا الصّادقة وحدها لا يمكن أن تصنع ربيع الأوطان ما لم تصاحبها رؤية واضحة و استقراء لطبيعة المرحلة و لخصوصيّات الشّعب وانتظاراته . و قد دعونا السيّد الرئيس سابقا و ها نحن نكرّر الدعوة ثانية إلى أن يكون مجمّعا للشعب لا مفرّقا و أن يستمع إلى معارضيه من الوطنيين الصادقين قبل مؤيّديه و أن يتفهّم هواجسهم و مخاوفهم ، و يحيط نفسه بفريق من المستشارين من كلّ المجالات على قاعدة الكفاءة و الولاء إلى الوطن لا إلى الشخص ، و ينتبه إلى نصائحهم ويعمل بتوجيهاتهم و لا يغترّ بفورة التأييد الحالية و عبارات المساندة المطلقة و التفاف جزء كبير من الجماهير حوله. فالشعب التونسي أثبت على امتداد تاريخه أنّه لا يصبر طويلا على حكامه ما لم يستجيبوا إلى تطلعاته … و الشعب اليوم مازال في انتظار تعيين رئيس حكومة و في انتظار الإعلان عن خارطة الطريق التي وعد بها رئيسنا الرئيس الفرنسي.
مما يحسب لسعيد هو نجاح حملة التلاقيح مما فتح أمام التوانسة باب الأمل في نهاية كابوس الوباء و لكن عليه من اليوم صحبة مستشاريه أن يفكّر في حلول لتداعيات الأزمة الصحية على الصعيدين الاجتماعي و الاقتصادي و أن يحقق طموح الشباب في التشغيل و في حياة كريمة، فلن يُحاسب الشعبُ غيرَه بعد أن أمسك كلّ السلطات بين يديه ..
و أمام غموض الرئيس وصمته المتواصل عن مشروعه المسقبلي يخشى الكثيرون من ظهور دكتاتورية جديدة و من الحنين إلى السّلطوية و السير وراء الرّجل الواحد و يدعون إلى غرس الدّيمقراطيّة كقيمة لا كولاء للفرد فالديمقراطيّة تُبنى في الاختلاف و التعدّد و قبول الآخر ..
فمن يفكّ لنا “شفرة الرّئيس” و يطلعنا على ما يضمره و ما يخطّط له للمستقبل ؟