من الظواهر المستفزّة سياسيا، بل وطنيا، هي هذا الميل الغريزي الذي يبديه قياديونا حكما و معارضة للصحافة العربية و الأجنبية، على حساب إعلامنا الوطني … المعارضة يمكن أن نتفهّمها خاصة في السابق و الكل يعرف تلك التضييقات على أنشطتها و تعبيراتها التي كانت … و لكنّ الحكّام الرافعين منذ دهور شعار تونس دولة ذات سيادة، تعوّدوا دائما على شيئين ذكرهما الراحل جمال الكرماوي … تصطكّ أسنانهم حيال صحافة الخارج، و تصطكّ أبوابهم في وجه صحافتنا التونسية …
و بين الصكّ و الاصطكاك و التسطيك حاشاكم، مسافة حروف أو أمتار قليلة … فالقادة الكبار عُرفوا أوّلا من خلال صحافة بلادهم التي أعلوا من شأنها فَعلا شأنهم … بينما صغار الحكّام لم ينفعهم لهاثهم المرَضي وراء إعلام “عالمي” يحتفي بمن يدفع و يغدق … و حين يجفّ المنبع أو يسقط صاحب الخزنة، يهيلون عليه التراب و يفسحون المجال للأمير التالي … لذلك انتشر في العالم اسم “ديغول” بفضل جان لاكوتور، و اسم “ميتيران” بفضل جان دانيال، و اسم عبد الناصر بفضل حسنين هيكل … و يمكن قراءة هذه الأسماء طردا و عكسا، إذ حاز الصحفيون المذكورون شهرة واسعة لانفرادهم بمصدر الخبر في أوطانهم … الذي فتح لهم بدوره، أبواب مصادر الخبر في كل عواصم الدنيا …
دعم معنوي مهمّ جدا يستفيد منه الطرفان و خاصة يستفيد البلد أيما استفادة … انتشار صحافتك يعني انتشار نفوذك و تعاظم حجمك في مجرى الأحداث … يعني ازدهار سياحتك و معالمها تُحكى في الصفحات و القنوات و الموجات … يعني نماء اقتصادك و صوتك واصل إلى آذان مستثمرين لم يكونوا يسمعون ببلادك سماعا … يعني إشعاع ثقافتك و فنونك و آدابك على عيون الآخرين و عقولهم … بلد كلبنان لا يزيد حجمه عن جهة الساحل عندنا، و مع ذلك فأهميته تزيد عن تونس مائة مرة، بأهمية “النهار” و “الأنوار” و “الحوادث” و باقي العناوين التي غزت الكون قراءة و مشاهدة … دولة قطر، ها هي تقرر مصير دول و شعوب و قارّات و تظاهرات رياضية كبرى و أندية لا بالفلوس وحدها، بل بتلك الفضائية التي تمسح نشرتها الجوية وحدها كافة كوكب الأرض … و دون مجاز أو استعارة …
دعم معنوي … و لا أريد أن أتوغّل كثيرا في الدعم المادي الذي تلاقيه وسائل الإعلام تلك … الصحافة الفرنسية مثلا ـ على ثرائها ـ تتلقى دون لستثناء، منح دعم من الدولة الفرنسية بشكل علني رسمي مثبت في الميزانية … لا رشوة تحت الطاولة لخدمات خاصة، فنحن نحكي عن صحافة جادّة حادّة لاذعة، لا عن بوق دعاية … بينما في بلادنا حيث توجد شجرة خروَع ضخمة أسمها وكالة “وات” (مع احترامي لعديد صحفييها)، مطلوب منك تصريف أفعال “استقبل” و “ودّع” و “أذِن” و “اطّلع” … و تطلع روحك و لا تمرّ إلى فعل خامس …
لذلك نشأت صحافتنا كأطفال الشوارع الذين لا يريدهم أحد، و إن التفتوا إليهم فلاستغلالهم في الشحاذة أو بيع أكياس البلاستيك أو مسح بلور السيارات عند الضوء الأحمر … هذا إذا لم يتم توظيفهم في الجريمة أو رشق الحجارة على المتظاهرين و الهتاف حتى البحة باسم من يحكم البلاد … تفعل هذا و غيره مما يراد منها، و يا ويلها إن خرجت عن النص أو عن الصفّ … أقول هذا الكلام عمّا قبل 2011 طبعا، و لكن خاصة خاصة خاصة بعد تلك السنة السنواء … فقد فرحنا وقتها و قدّم كثيرون اعتذارهم و قالوا ها قد انزاح ظلم و جاءت ثورة فلننطلق في العمل النزيه المحترف … و لكن الساسة الجدد أفهمونا بكل اللغات (و منها لغة “اعتصام العار” أمام مقر التلفزة 2012) أن الملك الجديد مثل الملك القديم … بل أشنع.
و ها أنت تراهم منذ عشر سنوات و قريبا إحدى عشرة، يتهافتون كالذباب على قنوات الجزيرة و العربية و سكاي نيوز و فرانس 24 و أية خربة أخرى … المهمّ برّانية … في حين تصطفق أبوابهم أمام أولادنا و بناتنا و وسائل إعلامنا، و لا يتذكرونها إلّا حين تكسد سوقهم و تنكسر كراسيهم …