إثر تقديم مقالة الحلقة الأولى التي تطارحنا فيها تساؤلات حول لملمة شتات القوى اليسارية و عودتها إلى المد بعد الجزر التي عرفته خلال السنوات الاخيرة … و الذي كان سببا حتميا في ما طرأ عليها من انقسام إثر خلافات حادة يبدو أنها لم تكن هذه المرة ذات صبغة إيديولوجية بقدر ما كانت خلافات تنظيمية عزاها البعض إلى البيروقراطية و التفرد بتسيير الجبهة الشعبية من طرف أحد أحزابها … كما يرى طرف آخر أن السبب يكمن في الرغبة الجامحة في قيادة الجبهة أو الترشح للانتخابات الرئاسية …
و رغم أن اليسار قد كان حاسما بمساهمته العظيمة في ثورة 2011 التي شارك فيها الشباب اليساري في ظل ثورة أو انتفاضة تفتقد للتأطير و لقيادة واضحة المعالم يستظل بها شباب الثورة و عموم الشعب … إلا أنهيطرح السؤال بكل قوة عن الأسباب التي أدت إلىفشل اليسار من الوصول إلى الحكم أو المشاركة فيه بعد ثورته التي انتظرها أحقابا من الزمن : هل هي حملات التكفير التي قام بها خصومه التاريخيين بالمساجد و الخيام الدعوية و الأسواق الشعبية و المواسم الدينية بُعيد الثورة مباشرة؟ أم أن الأمر يتعلق أساسا بأزمة الخطاب و ضعف الممارسة الميدانية التي كانت دوما نقطة قوة لدي اليساريين في صراعهم مع السلطة لاسيما في ما بين 1963 إلى 1983؟
نحاول اليوم اعتمادا على بعض المراجع التاريخية و متابعة المد اليساري خلال بعض مراحل التاريخ المعاصر … و هي مراحل اتسمت بالإيقافات و السجون و التعذيب التي عاناها اليساريون بمختلف أصنافهم و خاصة مناضلو “برسبكتيف”(العامل التونسي)
إذا ما تصفحنا تاريخ اليسار نرى أنه برز على الساحة السياسية الوطنية بين مد و جزر منذ الأربعينات حيث بدأت الحركة الشيوعية تأخذ مكانها داخل البلاد مشاركة في الكفاح التحريري ضد المستعمر الفرنسي … كما شهدت الحركة توسعا خلال سنوات الخمسينات و الستينات بعد الاستقلال … و لعلها تميزت خلال أواخر الستينات بالاحتكاك بعموم الشعب و تجسيم ممارسة علمية صحيحة (المناضل الشيوعي “الجيلاني العزوزي” نموذجا) و الذي قام بدور كبير في محاولة نشر أدبيات و مبادىء الحركة الشيوعية … لا بالخطاب فقط بل بالممارسة البراغماتية و نشر الأطروحات الشيوعية بذكاء حاد عبر ما قدمه من خدمات جليلة لصالح تلاميذ الولايات المجاورة لمدينة قابس مثل قبلي و مدنين … كإنشاء مبيتات و مطاعم مجانية للتلاميذ الفقراء و مد البعض منهم بتساخير نقل و أدوات مدرسية و لربما العديد من ‘طارات الأمس أو اليوم يتذكرون ذلك … كما حاول كمناضل في الحزب الشيوعي التونسي آنذاك تجذير قيم العدالة و التعاون و الوطنية و مناهضة كل صور الاستغلال…
صراع الحركات اليسارية مع سلطة الحزب الواحد و البرلمان الواحد:
بدأت معاناة الحركات اليسارية و ضرب نضالاتها في ظل كماشة الحكم الفردي لبورقيبة و قد تبلورت انطلاقا من سنة 1963 حين بدأت الحركات اليسارية تنغرس صلب الأوساط الجامعية لعل من أهم قياداتها يمكننا ذكر “بن جنات” و “صالح الزغيدي”.و خميس الشماري الذين تم ايقافهم ثم أطلق سراحهم سنة 1970 حينما بدا للسلطة الحاكمة ميل لإضفاء نفس من التفتح النسبي المحدود و المقنن تجاه اليسار إثر فشل التعاضد …..و في الفترة ذاتها برزت للوجود حركة “برسبكتيف” عبر منشوراتها على صحيفتين تصدران بفرنسا ليتم توزيعهما سريا بتونس … و جدير بالتذكير أن الصحيفتين المذكورتين تصدران باللغة الفرنسية و تستهدفان قراء الطبقة المثقفة و طلبة الجامعة …
و خلال شهر جويلية 1969 صدر أول عدد،من جريدة “العامل التونسي التي طغت على مقالاتها اللهجة الدارجة في إطار استهداف الطبقات الشعبية و عموم الشغالين ….و لعل الصراع مع السلطة قد احتد فعليا اثر مؤتمر الاتحاد العام لطلبة تونس المنعقد بمدينة قربة تلته ثورة 5 فيفري 72. عندما بدأ مناضلو “العامل التونسي”.في التقدم لاكتساح المرحلة الجديدة المتمثلة في مشاركة فاعلة في الإضرابات العمالية و تأطير تحركاتها و تنظيمها و الانتماء إلى الاتحاد العام التونسي للشغل لدعم هذه الأهداف باعتباره المؤسسة القوية في مجال الدفاع عن حقوق الطبقة الشغيلة …
لكن مثلما ذكرنا فان هذه التحركات البراغماتية المتميزة عبر العمل الميداني لمناضلي “العامل التونسي”.قد أثارت حفيظة النظام و أدت إلى تحركه بقوة لضربها و الفتك بها عن طريق العنف البوليسي خاصة لدى اضراب 2 ماي 1972 لاسيما و قد تتالت نجاحات مناضلي “العامل التونسي” حيث توسعت نشاطات حركة “برسبكتيف”و كذلك صحيفتها التي انتشرت لدى الأوساط الطلابية و العمالية و حتى الشعبية كما تمكن مناضلو برسبكتيف”(العامل التونسي) من النفاذ إلى عمق البلاد و الانطلاق في تركيز خلايا سرية نشيطة لعل أهمها في قفصة و سوسة و القيروان و صفاقس و بنزرت … كما طفت على ساحة الجامعة الصراعات مع الإسلاميين و كان على هذه الحركة و اليسار الطلابي عموما مواجهة سلطة قمعية عازمة على القضاء عليها و صراع مع إسلاميين يؤمنون بالعنف و الضرب بالسلاسل الحديدية …
(في الحلقة القادمة …إشارة بورقيبة لقمع مناضلي اليسار و رأس الحربة حركة برسبكتيف )