جور نار

طائر الفينيق

نشرت

في

من هو حنبعل - سطور

كلما فقدت الأمل في هذه البلاد أخرجت لي لسانها مشاكسة و كأنّها تقول أنا الأجمل مهما حدث وانا الأبقى و إن أنكرتم و أنا المنتهى و إن رحلتم أو غادرتم …

<strong>عبير عميش<strong>

تجربة شخصية عشتها في الأيّام السابقة جعلتني أحلق في عوالم من الفرح و النخوة و أومن بهذا الشعب بعد أن كدت أكفر به و بإنسان هذه البلاد الذي كثيرا ما يبدو لنا متخاذلا متهاونا منسحبا فوضويّا حاقدا حسودا … ثمّ تأتي أوقات يظهر فيها معدنه الحقيقي … اتصال هاتفي بصديقة قالت لي حرفيا ” اللي جابتو ساقيه .. العصا ليه … قاصدتك في خدمة ” .. قلت : ” مرحبا اطلب و إذا انجم نعاونك ما نبخلش ” .. و من هنا انطلقت الحكاية ..

كل ما في الأمر أن صديقتي كانت من ضمن مجموعة فكرت في أمر التكفل بدروس مراجعة لبعض تلاميذ الباكالوريا من أبناء العائلات المعوزة من صفاقس و أحوازها، ممن لم تسمح لهم ظروفهم المادية بتلقي دروس دعم أو تدارك طيلة السنة … طلبت منّي بفعل انتمائي إلى سلك التعليم مساعدتها في الأمر و البحث عن أساتذة متطوّعين للقيام بهذا النّشاط .. و للأمانة وعدتها بالمحاولة دون كبير ثقة في النّتائج فالثلاثي قصير و الوقت مضغوط و الجداول ممتلئة و الوضع مشحون …

و لكنّ ما عشته و عاينته من الغالبيّة خيّب ظنوني و فنّد شكوكي و أعاد ثقتي في هذا الشعب و أبناء هذا الشعب … فبمجرد تدوينة فايسبوكية نشرتها على جداري و في مجموعتين مخصصتين للأساتذة، تهاطلت التعاليق و الاتصالات و أبدى الكثيرون رغبتهم في المساعدة و لم أعد قادرة على الردّ على رسائلهم وتفاعلاتهم، و أشكرهم جميعا على ما لمسته فيهم من حبّ للمهنة و التلاميذ من ناحية، و للعمل التطوّعي من ناحية أخرى و قد قرر كل منهم التبرّع بجهده و طاقته مثلما تبرّعت الجمعية المبادرة بتوفير فضاء التدريس و لوازمه …

أعادوا ثقتي في الشعب الذي استيقظ ذات ديسمبر 2010/ جانفي 2011 للدفاع عن حقه في حياة كريمة و خرج بعد مغادرة بن علي لحماية البيوت و الأحياء و المنشآت … الشعب الذي تظهر حقيقته وقت الأزمات .. الشعب الذي يصمت طويلا و يصبر كثيرا ولكنه يراقب و ينتظر لينتفض في اللحظة الحاسمة … قد يخطئ الاختيار و يسيء التقدير، قد ينساق وراء الأحلام الطوباوية و الوعود الزائفة …. لكنه لا يترك بلاده أبدا و لا يخذلها وقت الشدة … الشعب الذي ظهر على حقيقته في قولة التاجر أيام الثورة ” اللي ما عنداش يهزّ بلاش ” و في عبارة والد الشهيدة سارة الموثق ” وطني قبل بطني ” و في تجند الشباب وقت الكوفيد لتنظيم الصفوف في الإدارات و المؤسسات و مراكز الفحص و التلقيح و في توفير مولدات الأوكسجين و ما ينقص المحتاجين … و في غيرها من المناسبات …

من طينة هذا الشعب نفسه خرج اليوم الأساتذة المتطوّعون الذين طلبوا عدم نشر أسمائهم … و من رحم هذا الشعب نفسه اقترح البعض الآخر مساعدات مادّية و عينية ( طباعة أوراق … إرسال تمارين و إصلاح امتحانات … تدريس عن بعد .. التكفل بنقل التلاميذ الذين يسكنون بعيدا عن مركز المدينة .. القيام بورشات للمرافقة النفسية و التأطير البسيكولوجي قبل الامتحانات .. كل هذا إيمانا من الجميع بقيمة العلم والشهادة و بدور الإنسان في بناء الإنسان … مواطنون عاديون و أساتذة – لم يأبهوا لحملات التّشويه والشيطنة التي تطالهم منذ سنوات – يدركون أنّ العلاقة بين المربي و التلميذ هي علاقة تواصلية إنسانية قبل كلّ شيء …و أنّ المادّة زائلة و أنّ أساس العلم و المعرفة هو المشاركة و العطاء و أنّ الحقّ في التعلّم لا يمكن أن يكون حكرا على فئة من المحظوظين دون غيرهم …

تجربة أثبتت لي أنّه قد تلهينا معاركنا الصغيرة و صراعاتنا الفكرية و انتماءاتنا السياسية فلا نلتفت إلى المعدن الحقيقي لمن يحيطون بنا … و لكننا وقت الحاجة نكتشف أن ما يجمعنا أكبر و أقوى مما يفرقنا … قد لا تتفق ميولاتي الفكرية و الإيديولوجيّة و السّياسيّة أو حتّى الرياضيّة مع أصحاب المبادرة أو مع الكثيرين ممّن شجّعوها أو ممن راسلوني للتعبير عن رغبتهم في المساعدة، لكنّ ذلك لم يمنعنا من العمل معا من أجل غاية أنبل و أشرف …

هذا التعاون و رمي الخلافات وراء ظهورنا و التركيز على ما يوحّدنا و يجمعنا … كم نحن في حاجة إليه في بلادنا التي لن يبنيها غيرنا و لن يساعد أطفالها و شبابها غيرنا .. و لن يجدوا فيها قدوة غيرنا فليتنا نترك التّطاحن ونكفّ عن إضاعة الوقت و إهدار الفرص و نعمل معا و جنبا إلى جنب من أجل الأفضل … و قد أدرك فرحات حشاد منذ عقود حقيقة هذا الشعب حينما خاطبه قائلا : أحبك يا شعب.. أحبّك حين تبحث وتكثر من البحث عن مجرى أمور بلادك وسير قضيّتك وحين تنتقد وحين تصيح وحين تغضب وحين تدبّر وأحبّك حين تدافع عن مختلف النظريات التي تخطر ببالك في سلوك السياسة العامة، وحين تستفسر وتستجوب وحين تناقش وتحاسب ولكنّك تترك النزاعات جانبا عند الشدائد وتنسى التشاكس عند العواصف، فتهبّ من كل صوب ومكان وتتخلّى عن شغلك ومصنعك وتندفع بكل قوّتك حيث تلتقي ببعضك بعضا في صف واحد، صف الشعب الموحّد الهدف والكلمة صف الأمة المكافحة، صف الحق المدافع عن كيانه والمناضل في سبيل تحريره.

هي حوادث بسيطة و تجارب شخصيّة ضئيلة و لكنها كفيلة بأن تنير دروب الحلم و تزيل الصّدأ عن روح هذا الشّعب و تكشف حقيقة كينونته … و مهما كان الواقع مرّا و الوضع غير مريح سياسيّا و اقتصاديّا واجتماعيّا، إلا أنّ الأمل لا ينقطع في هذا الشعب الذي ينتفض كطائر الفينيق ليبعث من رماد آلامه و خيباته أملا و حياة جديدين … فكما الفينيق تكون الإرادة … و كما الفينيق يكون الإنسان … هو أسطورة لكنّ الإنسان حقيقة وواقعا قادر على التّغيير متى أراد ..

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version