كلّ نار

أصوات الحقيقة مطالبة بالسكوت … وآخرها نصاف بن علية !

نشرت

في

مطلوب وضع تلك الكمّامة على الأفواه و إلى الأبد

تمت البارحة إقالة د. نصاف بن علية و من ماذا؟ من منصب في الحكومة؟ لا … من رئاسة إحدى شركاتنا العمومية المفلسة؟ لا … من تسيير إحدى ولاياتنا أو معتمدياتنا السائرة في طريق الهلاك؟ لا … من الإشراف على أحد مطاراتنا التي تطير فيها السجائر و أمتعة المسافرين و لا يطير المسافرون؟ … من إدارة إحدى تلفزاتنا و إذاعاتنا المشتغلة أبواقا للتطرّف و سوء الذوق؟ لا … من تنظيم إحدى تظاهراتنا الثقافية و قد أصبحت مضافة لبغايا آخر الليل؟ لا … من قيادة أحد بنوكنا المتحوّلة خراطيم مصّ لدماء الفقراء و جحورا لتمرير المال المشبوه؟ لا، لا، لا …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

الدكتورة نصاف أقيلت في بيان مقتضب من وظيفتها الطبيعية كمجرد “عضو” في لجنة علمية لمكافحة وباء كورونا، و بحكم اختصاصها في الأمراض المستجدة … عضو لجنة لا امتيازات له، و لا منح زائدة، و لا معلوم حضور سمينا كمجالس إدارات الشركات العمومية المذكورة أعلاه … عضو من عشرين ما بين أطباء و صيادلة و أخصائيي إنعاش و إحصاء و علم اجتماع، و فيهم حتى وزير ثقافة سابق شبع ضحكا أيام “غزوة” معرض العبدلية !

و لم ينس بيان الإقالة ـ ربما لتطمينها أو تطميننا نحن ـ التأكيد على أنه يمكن لنصاف بن علية حضور أعمال اللجنة لكن دون مناقشة القرارات.

و الأربع كلمات الأخيرة، هي مربط الفرس …

نعم، مطلوب منك حتى تسلم من أي أذى، أن لا تجادل، لا تناقش، لا تعترض، لا تتوجّع، لا تتفجّع، لا تقول هذا كذب أو عيب أو خطأ أو خطر أو هذر …

و عندهم هنا ألف حق … فـ “طبيبة الشعب” تكلمت كثيرا في الأشهر الأخيرة، تكلمت و ناقشت و حذّرت و أرشدت و أعلمتنا بما لم نعلم … منذ بداية الجائحة و حين اختفت معظم الرؤوس تحت الفرّاشية، رؤوس رجال بشلاغمهم، كانت هي كالفارسة الوحيدة وسط المعركة … دفعوا بها لمواجهة الموت و مواجهة هلعنا الذي كان يمكن أن يكون وبالا عليها … و مع ذلك كانت دائما هنا، نبّهتنا حين كان يجدر التنبيه، أعادت إلينا الثقة حين قلنا انتهي العالم، بسّطت أمامنا إجراءات الوقاية و أفهمتنا أنه بشيء من الاحتياط ما تزال الحياة ممكنة، و العمل ممكنا، و استمرار تونس ممكنا …

كانت معنا في يقظتنا و أحلامنا، كانت تفرح حين يظهر انفراج، و تبكي حين تكون هناك أنباء موت، و تغضب حين تلاحظ تراخيا و استهتارا بالقواعد الأولية لحفظ الصحة … تماما كما يفعل طبيبك الخاص الحريص على حياتك حرص الصديق … كانت طبيبة العائلة التونسية، طبيبة 12 مليون إنسان دفعة واحدة …

و يبدو أن ساسة الأربعة قروش لم يرُق لهم مناخ المحبة الذي جمع ملايين القلوب مع هذه الصامدة التونسية و نظارتها و صوتها البالغ الحساسية و التفاعل مع الأحداث … و في زحمة معاركهم الدجاجية على زعامة القُنّ، حسبوها منافسة و راحوا يضربون اخماسا في أسداس حول نجوميتها التي يمكن أن تهدد عروشهم يوما … من يدري؟ … تركوا محتوى ما تقوله في كل ظهور لها، و اكتفوا بذلك الظهور المتكرر على الشاشات … خاصة أنه سبق للكثيرين منهم أن استغلّوا نجومية البلاتوهات، في الطموح و الوصول إلى مغانم سياسية …

صحيح ذلك في ما يخصّهم، و في ما يخصّهم وحدهم … و لكنه بالتأكيد لا يخصّها و لا يخصّ العديدين من أبناء مهنتها … و يجب عليك أن تعرفهم عن قرب حتى تفهم أن السياسة و مناصبها يلقون بها يوميا في صندوق قمامة المستشفى … الأطباء الصحاح ـ لا الهلافيت ـ لا يستبدلون مرضاهم و بحوثهم و زيهم الأبيض بمال الدنيا … محمود الماطري قاد حركة وطنية بطم طميمها، و لكنه حين جاءت السلطة بقي على هامشها مدة وجيزة ثم عاد إلى عيادته قرير العين … سعدون الزمرلي نفس الشيء تقريبا … بشير داود كان الصديق الشخصي للزعيم بورقيبة، و لكنه لم يطلب شيئا أكثر من تركه حرا في عيادته بقسم 5 بمستشفى شارل نيكول … و آخرهم الهاشمي الوزير و قد رفض الوزارة منذ أسابيع قليلة و بشدّة حين عُرضت عليه …

إلى هذه الفئة المغرمة الكادحة تنتمي نصاف بن علية … لم تراود حزبا و لم تسع لمنصب و لم تركض وراء دعاية و لم تترشح لأي شيء، و ليس ذلك لقلة محاولاتهم معها، بالعكس …

و مع ذلك، ما تزال تزعجهم، بأسئلتها، بخروجها لإيقاظ غافلينا، باستشعارها الدائم للخطر، بخوفها علينا خوف الأم على أولادها … تزعجهم و تزعج وزير صحتهم الثقيل الطلعة و المنطق و الظلّ، و هو من أطباء الساعة 25 نذكّر بذلك …

أقالها من منصبها، لا، بل من عملها العادي و كأنه سيعمل مكانها و سيصارحنا بدلا منها … و بماذا و هو لا يحسن تركيب جملتين على بعضهما؟ … و سيذهب يوما و يُقال هو بدوره لأي سبب من الأسباب … و تبقى هذه السيدة في قلوبنا، و عيوننا، و ذاكرتنا …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version