كلّ نار

عبد القادر المقري: ماذا بقي من تونس؟

نشرت

في

“الويل لأمّة كثرت فيها طوائفها

و قلّ فيها الدين

و الويل لأمة تلبس مما لا تنسج،

و تشرب مما لا تعصر

و الويل لأمّة مقسّمة،

و كل ينادي أنا أمّة”

<strong>عبد القادر المقري<strong>

كم تفجعني هذه الكلمات الجريحة التي خرجت من جبران و شدت بها فيروز ذات حرب أهلية … و كنا نظنّ أن ما بها لا يحدث إلا للآخرين، أما نحن فمن غير الوارد أن نصل إليها يوما أو نعيشها … و لكن ها أننا اليوم على مشارفها، و ما يمنع ذلك؟ السلاح؟ أنت تسمعهم نوابا و وزراء و قياديي أحزاب يقولونها في كل فرصة و بصوت عال: إما أن تكفّوا عن مناوشتنا أو نريكم كم عندنا من مقاتل و انتحاري و جندي من جنود الله …

بل و فعلها أحدهم  و قدم لنا استعراضا يليق بعروض الشبيبة الفاشيّة في ثلاثينات القرن الماضي … و هناك من سبقه من نفس الملة منذ تسع أو عشر سنوات و أتحفنا بما يشبه المؤتمر الأفخارستي … أعلاما و أزياء و خيمات و شعارات و أبواقا و سيارات مصفحة و عيونا يتطاير منها الشرر … و ما يزال حزب التحرير مثلا إلى اليوم يوزع منشورات منذرة منكرة يكاد بارودها ينفجر و لو لم تمسسه نار …

هل بقي لك من كلام عن الوطن و الوطنية مع هؤلاء؟ جرّبنا ذلك و كنا كمن يصرخ في واد

نفس الفعلة فعلتها أسلاك مهنية و مجموعات و تنسيقيات بلا حصر … أسهل شيء عند التونسي أصبح أن يوقف مرفقا عاما، يوقفه بل يشلّه تماما ليوم لأيام لأسابيع و يمكن حتى أبد الدهر كما كان ساسة العهد القديم يختمون خطبهم حول تونس الحرة المستقلة المنيعة إلخ … تتوقف الحياة عندنا تماما اليوم لأقلّ سبب و لا يعبأ المحتجّون بمن يتضرر من ذلك من الشعب الكريم، ما دام لا يوجد بوليس و لا سلطة تقول أفسحوا الطريق …

وطنية الدولة و النخب آذنت شمسها بالمغيب … فالأولى تتداولها الأرجل و الهامات و لا تعرفها في أية سلة تقع، فمرة قد تسند لخائن و مرة قد يقطفها مجنون، و سائر الأيام ها عندك طبقتنا السياسية و عاهاتها الظاهرة و الباطنة … أما النخب المثقفة فقد سارت على دين ملوكها، بل و حتى دين ملوك الخارج بما أن كثيرين منها اختاروا جواز سفر ثانيا، و فيهم من وطّن نفسه في منفى ـ يقول هو ـ يضمن له البيرة المثلجة و العيش الرغيد … و صار يمارس منافسة غير شريفة مع عمالنا بالخارج …

يظلّ الأمل فقط … فقط في أولئك المنسيين في جبالنا و سهولنا و جزرنا و أحواز صحارينا، أي تلك الفئة الضخمة المتناثرة على الربوع مثل نوى التمر أو زهور الشوك … أولئك الذين نرمي بمصيرهم مرة لجارنا الجنوبي كي يتولى عيشهم، و مرة لجارنا الغربي عسى أن يقاسمهم فتات اقتصاده الناهض … و مع ذلك فالشجرة التونسية نابتة هناك غائرة العروق عالية الفروع و الشماريخ … تضيق بهم الدنيا أحيانا فيهددون بالانضمام إلى هذه الدولة الجارة أو تلك، و لكن على أقلّ هزّة جادّة تجدهم حملة بيرق و حماة حمى … و بنقردان نموذجا …

بدأنا بجبران و فيروز، و ننتهي بهما:

“وطني الفلاحون

 وطني الكرّامون

وطني البناؤون، و الغار و الزيتون

وطني هو الإنسان”

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version