عبد القادر المقري: ما بين حمار الحوار و بغلة عمر، ضاعت لحانا
نشرت
قبل 4 سنوات
في
اللعنة على هذه المهنة المعذبة التي تجبرك جبرا على أن تكتب عن أناس لا تريد أن تكتب عنهم و لا تقرأ و لا تسمع … و اللعنة أكبر على ظروف المعيشة القاسية التي أكرهتنا جميعا على متابعة السياسة و قد قال زعيم قديم إن راكبها مثل راكب البحر إن سلم من الغرق لا يسلم من الخوف … و من لم يمت منا هذه الأيام فإنه خائف مرتجف مرتعد مرتعب … نعم أنا خائف و أنت كذلك و أنتم و أنتنّ و هم و هنّ … كلنا واجفون مما سيحمله الغد و البلد لم يعد بين أيد أمينة بل يتداوله الفيروس و العبث و الطمع و قصر النظر و خاصة هذا الجهل الذي ران على حكّامنا كبيرهم و صغيرهم و متوسطهم …
كلما وقعت مصيبة و احتاروا في الإجابة عنها بعثوا لجنة … و كلما عجزوا عن تسيير البلاد ـ و ما أكثر ذلك ـ تنادوا إلى تنظيم حوار وطني و إنقاذ وطني و مؤتمر وطني و نشيد وطني … و الله لقد عفنا حماة الحمى يا حماة الحمى و هو ينطلق في الأجناب كل لحظة كأنه انفلاق عجلة سيارة في عزّ القائلة … و الغريب أننا سئمنا و ما سئموا، و ما زالوا يعلنون عن الحوارات الوطنية و كأنهم يبشروننا بظهور اليابسة بعد رحلة بحرية لا أمل فيها … و ما زالوا يتصوروننا نطرب لرؤيتهم و هم يجتمعون و يتخيلوننا منتظرين فرجا كما ينتظر الجوعان عسلا من تيت الفرززّو …
يا أخي حرام عليكم … لعبتم معنا اللعبة في 2013 و صدقنا الحكاية و تراصصنا تحت النوافذ حالمين بالدخان الأبيض و إطلالة البابا و هو يمطر علينا خبزا و سمكا … و في الأخير أخذوا هم نوبل و أخذنا نحن الهواء و مهدي جمعة … و لعبتم بعدها لعبة حوار آخر في عاصمة فرنسا بين عجوزين يقول كلاهما عن الآخر إنه الشيطان و بعد ذلك اتفقا و فرحنا لاتفاقهما … إلا أن ذلك أفاد الأوّل فرسّم ابنه فرعونا صغيرا على البلاد، فيما استفاد الثاني بأن زرع “أبناءه” بالآلاف في أهم مناصب الدولة و أخفى ملفات و رقد على غنائم و استزاد منها … بينما لم يقع في أيدينا سوى انهيار اقتصادي غير مسبوق و تنبيه رسمي من الاتحاد الأوروبي بأن أمسِكوا لقطاءكم الحارقين عن سواحلي يا عراة …
بلدنا اليوم في وضع كلهم يقول عنه إنه كارثي … و لم يبق منهم رأس لم يطلّ علينا ليفجعنا بأننا على حرف الهاوية، و أن الإفلاس يدق أبوابنا، و أن الانفجار وشيك، و تلك العبارة المرورية الشهيرة “داخلين في حيط” … نعم طيب، و بعد ذلك؟ … هل تريدوننا أن نبكي؟ أن نطلب النجدة؟ أن ننتحر جماعيا؟ أن نكتري 10 آلاف مركبة و نهرب إلى إيطاليا؟ … ترشحتم لحكمنا مرارا فانتخبناكم و نصّبناكم و فوّضناكم و سلّمنا لكم مفاتيح البلاد بخزائنها و ثكناتها و محاكمها و مصانعها و بنوكها و صناديقها الاجتماعية و مواردها و نفقاتها … و ها نحن ننتظر عشر سنوات و لم نر منكم سوى الولولة ليلا نهارا على حالنا و حالكم و حال أمة محمّد …
أمور كثيرة تحتاج قرارا إداريا لا غير حتى تصطلح و تفيد و تثمر … قرار في تمرير ملفات استثمار أعدّها شباب توّاق فرقدت في مكتب الوالي أو “وكالة الآبي” … قرار في تنويع شركائنا الاقتصاديين حسب مصالح بلادنا لا حسب شهوة الوصيّ الفرنسي … قرار في حماية رجال المراقبة و نسائها حتى يخرجوا أطنان الموادّ المدعّمة من أوكارها و معها صاحب المحلّ ملفوفا في زاورة … قرار في التزوّد الفوري بلقاح كورونا و بدء التطعيم حتى تطمئنّ قلوب التونسيين مع أولى الدفعات … قرار في وقف السرقة من جرايات المتقاعدين و هم يدعون عليكم بالخراب و تكسير الباب منذ قررتم حكاية الواحد بالمائة …
هذه و غيرها عينات صغيرة مما يمكن أن يفعله رجل سلطة قاعد في القصبة و ضواحيها … بضعة إجراءات عادية و إمضاءات و متابعات، و تبدأ تونس كلها في التنفّس … بدل أن تتكاسلوا أو تتجاهلوا، و يتفنّن رؤساؤكم في ابتكار الطلعات و البوزات و أشكال البلاغة … و أن تتواعدوا على لمّة أخرى قد تأخذ أسابيع في المساومة، و أسابيع في الإعداد، و أسابيع في العرض، و في الأخير يموت حمارنا الوطني كما مات أبوه و أعمامه … و يعود جماعتنا في البلاتوهات داعين إلى حوار عبثي آخر …
إذن قوموا اشتغلوا، و كفّوا عن إضاعة الوقت و التحيّل على سماواتنا …