لن أكمل إلى آخر قصيدة “أبولينير” الخالدة، و لكني مثل ملايين الناس في هذه الذؤابة القصوى من شمال القارة الإفريقية صرت متفرجا سلبيا على ما يجري تحت أقدامنا و لو كان دما ينزّ من شراييننا المفتوحة … في العادة نحن نفزع لأقل وخزة شوك أو لفحة نار أو لسعة برد أو برج برتقال يُخطف من أمامنا … و لكننا منذ سنين، و بتتالي الوخزات و اللسعات و الخطفات و الكيّات، خمد شعورنا تدريجيا و صارت حتى أنباء الموت عندنا تشبه أخبار الطقس في سريلانكا، نمرّ عليها كراما و لا نفتح الآذان لسماع بقيتها …
عدد ضحايا كورونا تجاوز عندنا اليوم الـ 5000 وفاة، فيهم مغمورون و أبعدون كثر و لكن فيهم أيضا معارف و أقارب و أصدقاء و مشاهير من كل المسافات … فيهم ناس كنا نحبهم و لسوف نكتشف حجم العراء الذي تركوه في حياتنا بعد عودتنا إلى الوعي ذات يوم … و مع ذلك ها نحن نكتفي بلحظة مندهشة و ينتهي كل شيء بسرعة … هذا في الأقصى، فما بالك بالأدنى أي بتحوير وزاري يذهب فيه وزراء (و لا يموتون) و يأتي منه وزراء (و لا يولدون) و تتغير فيه أسماء وزارات … و قد يحدثون هنا أو هناك خطة كاتب دولة و قد أصل يوما إلى فهم نظريتيْ النسبيية العامة و النسبية الخاصة و لكن لن أفهم هذه الخطة ǃ
قلت يقع تحوير وزاري للمرة 12 أو 13 و يجرّ وراءه فيلقا جديدا من التونسيين الذين لم يستوزروا بعد، و مع ذلك لا تتحرك منا و لو إصبع الرجل الصغرى … ربما في البداية كنا نتطلع إلى الأسماء و نتوقع تغييرا في السياسات و خاصة في شأننا المباشر و نوع معيشتنا و سعر مواد الاستهلاك و ثمن كلمة نقولها أو فعلة نفعلها … و لكن مع تهاطل المسؤولين علينا، و بعد استعراض خمسمائة وجه منذ حكومة الغنوشي الأولى إلى اليوم، صرنا لا نبالي بمن يسمّون و حتى بمن يسمّمون … فلماذا يا طويل العمر؟
تحوير الرؤوس الحاكمة كان دائما ـ عندنا و عند غيرنا ـ يعني بالضرورة منعرجات جديدة على طريق الحكم … في الستينات مثلا و عندما اختار الزعيم أمينا سابقا لاتحاد الشغل كي يمسك أهم وزارات البلاد، عرف الناس أنه سينحو منحى اجتماعيا … فكان بن صالح و كانت تجربة التعاضد الوطنية الثرية بخيراتها و خيباتها … في السبعينات و عندما شاء النظام أن يسير في الخط الليبرالي المرتبط بالخارج اختار رجلا رأسماليا عضوضا اسمه الهادي نويرة … و بعد قليل و عندما تأزّمت أوروبا إثر صدمة 73 و معها حكومة نويرة و بدأت البطالة في التفشّي و ضاق حتى متنفس الهجرة المنظمة … وقتها و حتى يتسنّى إسكات الأصوات النقابية المتصاعد احتجاجها، كان يكفي تغيير طفيف في وزارة الداخلية، كي يفهم الجميع أن المواجهة الدامية دقت ساعتها … فكان مدير الأمن الجديد العقيد بن علي، و كانت مجزرة 26 جانفي …
و كل هذه التوقعات و القراءات للتحويرات الوزارية كانت منشورة في وقتها على جرائد “الرأي” و “الشعب” و غيرهما من صحف الداخل و خاصة الخارج… و كانت حتى لمفردات الخطاب الرسمي شفرات و لتغيّراتها دلالات … نستشفّ ذلك من جملة في نشرة الثامنة أو موضوع ملف الأسبوع أو ديباجة حديث اليوم على الإذاعة الوطنية …
اليوم عندك وزراء أشباح، في دولة أشباح، في مدن أشباح و أرواح … تنقطع عن منزلك الكهرباء فلا تعرف لمن تشكو … يعود أولادك قبل الوقت من مدرسة مغلقة فلا تجد من تسائل … تفتقد دواء مرض مزمن في الصيدلية فترفع عينيك إلى الخالق الشافي … يفاجئك اقتطاع مجهول من راتبك فتخاطب الجدران … تضربك أسعار السوق فتعيد ترتيب مصاريفك و لا تفتح ملطومك … تتعرض لعدوان في الطريق العام فتستنجد بالمارة أو بساقيك أو بصبر أيّوب … لا أحد منشغل بك و لا بوليس في مركز و لا مسؤول في وزارة إشراف و لا قائد في الطائرة و لا ربان في السفينة …
سيأتي يوم نحكي فيه عن حكومة الكفاءات و حكومة المكافآت … و في انتظار ذلك، عمّ السوء و عمّ اليأس و عمّ الاختناق و ليس هناك من منفذ … تريدون ثورة؟ هاتوا أوّلا نظاما منظّما مفهوما ملموسا واقفا على ساقيه … كي نثور عليه …