عندما تعود بي الذاكرة إلى أحداث جانفي 2011 و الشعار الرئيسي الذي رفع حينها ” شغل حرية كرامة وطنية” تصيبني نوبة من الضحك الهستيري، إذ لم يتحقق شيء من هذا الشعار فلا كرامة و لا حرية حقيقية و لا تشغيل، بل على العكس من ذلك تضاعفت أعداد العاطلين و ازدادت وضعياتهم سوءًا و تدهورا ..
الشعار الوحيد الذي تحقق على أرض الواقع هو ” أحييني اليوم و اقتلني غدوة” هذا الشعار الذي اعتنقه الشعب بمجرد رحيل بن علي و تبناه الاتحاد و آمنت به الحكومات المتعاقبة فأبناء الشعب من الموظفين و الشغالين و كل منتسبي الاتحاد و غيرهم من الإطارات كالأطباء و القضاة و المحامين…. اغتنموا الفرصة للمطالبة بزيادات و ترقيات و منح و امتيازات استثنائية و ضغطوا على الحكومات الضعيفة و هددوها بالكلمة السحرية ” ديغاج” ليحصلوا على نصيبهم من الثروة المزعومة و الرخاء الذي كان يحرمهم منه ” الدكتاتور”.
و لم يترك أصحاب التعويضات الفرصة تفلت من أيديهم فحلبوا بقرة الثورة و ساهموا في إفراغ الصناديق و مضاعفة عجز الميزانيات المتتالية و إغراق تونس في الديون… و نسج أصحاب التنسيقيات و الاعتصامات المفتوحة و إغلاق الطرقات و مواقع الإنتاج على نفس المنوال ليأخذوا نصيبهم من كعكة الثروات و زادوا الأوضاع تدهورا و خرابا.. أما رؤساء الحكومات المتعاقبة فشعارهم الوحيد “اخطى راسي و اضرب” خذ ما تريد من المنح و الزيادات… و اتركني أنعم بمنصبي و لا تجعل اسمي يُسَجَّل في موسوعة غينيس كأقل رئيس حكومة التصاقا بالكرسي.
منذ عشر سنوات و الحكومات تعيش كما يعيش العامل اليومي “كل نهار و قسمه” دون رؤية استشرافية أو قدرة على التخطيط للمستقبل، و لا أحد من الشعب أو أصحاب السلطة فكّر في المستقبل… جميعهم نسي حق الأبناء و الأحفاد فاشتروا الحاضر و باعوا القادم.. و هاهم يستفيقون اليوم و نستفيق معهم على أنهم أضاعوا الحاضر و المستقبل معا، بعد أن استنزفوا كل الموارد و الطاقات و الثروات… و صار البلد على حافة الإفلاس.
لو نظرنا إلى ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية لوجدنا أن مواطنيها ساعتها ضحّوا و اشتغلوا أكثر من طاقتهم ليضمنوا لأبنائهم و أحفادهم المستقبل و ها نحن نرى اليوم مكانة ألمانيا في العالم و لو نظرنا إلى التجربة المصرية منذ 2013.. لوجدنا أن النظام الحاكم فضل البناء و التشييد على تحقيق الرفاه الآني للمواطنين و سيدرك المصريون في قادم السنوات _ و إن شعر بعضهم اليوم بالغبن _ قيمة التضحية بالحاضر في سبيل بناء المستقبل…
أمّا في تونس فقد مرت عشر سنوات دون بناء لبنة واحدة في أي مشروع كبيرا كان أو صغيرا و دون تخطيط للحفاظ على ثروات الشعب من نفط و فوسفات و ماء.. و لم نعد نسمع – كما كنا سابقا – بوجود مخططات متوسطة أو طويلة المدى، و كأن أصحاب القرار في هذه العشرية لم يسمعوا يوما بمصطلحات من قبيل التفكير الاستراتيجي و الرؤية الاستشرافية و التخطيط الوطني الشامل و بناء التوقعات و التصورات لمجابهة الأزمات …. و ها أن كل الألوان الحمراء قد اشتعلت و صفارات الإنذار قد انطلقت و كل المؤشرات تؤكد أنه قريبا سيأتي اليوم الذي تعجز فيه الدولة عن سداد أجور موظفيها و عن سداد قروض دائنيها و ستدركون حينها مدى فداحة خطيئتكم .
حينها سندرك _ يوم لا ينفع النّدم _ مدى غبائنا حينما سلمناكم رقابنا و استأمنّاكم على شؤون بلادنا و جعلناكم تديرونها بمنطق ” أحييني اليوم و اقتلني غدوة” و خسرنا اليوم و خسرنا معاه ” غدوة”