قبل تلاقيح كورونا، أشهد أني تلقيت جرعة تلقيح مضادة لصواريخه التي لا تتوقف …
منذ الأيام الأولى لجلوس هذا العصفور النادر الذي عثر عليه أحد الأحزاب و أعطاه صورة ليست صورته، من ذلك الوقت لم آخذه صراحة و لو مرة واحدة مأخذ الجد و لم أكد أنتبه إلى بقية جمله الرنانة التي توهمك بأنه يعلن عن حرب …
حرب “فإنّي و إنّي ثم إنّي و إنّني” التي افتتح بها شاعر قديم قصيدة تبدو نارية أدار مطلعها الرقاب، قبل أن ينصعق الحاضرون بعجُز البيت من نفس القصيدة و نفس المطلع (“إذا انقطعتْ نعلي جعلْتُ لها شَسْعا”) أي رقعة … مثل هذه الحروب الموهومة لا تعنيني، لا لأن بلدنا ليس له اليوم أعداء، بالعكس، بل لأن المتكلّم بها يختصر كل تاريخ الاحتيال السياسي الذي عرفناه … فقد كان لنا جار لا ينفكّ عن شتم أمريكا و لكنه لا ينفكّ أيضا عن إرسال المتوسّلين إليها، و يكتب أن “لا خير في شعب يأكل من وراء البحر” في وقت كان شعبه يعيش من استيراد كل المواد الغذائية و غير الغذائية طيلة سنيّ حكمه، و يهاجم الصهيونية و مع ذلك يبعث بطائرة حجيج كانت في أصلها قاصدة بيت الله الحرام، لترسي في كامل وعيها بمطار بن غوريون الإسرائيلي !
خطيبنا لهذا الزمن لا تفهم ماهيته بالضبط: هل هو رئيس نظام حاكم، أم هو زعيم معارضة، أم هو أستاذ قانون متقاعد، أم خطّاط على الرقّ، أم منظّر موسيقى من محبي مقام السيكا، أم إمام خطيب بجامع الفتح، أم قيادي في منظمة فتح الفلسطينية … أم ناقد مسرحي كما بدا لنا ذلك النهار في كلمته بالمستشفى العسكري و هو يتحدث عن عدوان أحد النواب على زميلته، و يصنف ذلك في باب التمثيل على الناس، و يسخر من رداءة المخرج و ضعف موهبة الممثلين … دون أن ننسى بنفس المناسبة إحدى صفتين تستنتجهما من كلامه عن علمه المسبق (و قبل 3 أيام !) بأطوار الاعتداء: عرّاف منجّم أو مخبر لا يخبر …
و في هذا الصدد لك أن تتساءل: إذا تكلمنا عن التمثيل و الإخراج و توزيع الأدوار … أليس أحرى أن تستدير أعيننا إلى مصدر الصوت، و إلى من يوجه الاتهامات العابثة للآخرين، و خلفه و أمامه و على جنبيه الأيمن و الأيسر مائة لغز و لغز؟
و عودة إلى المقارنات، فلو أضفت إليه النظارة السوداء الكبيرة، و الشعر الأسود المكعرش، و العباءة الصحراوية المتجرجرة، و بعض مفردات و نبرات لهجة البلاد الواقعة على حدودنا الجنوبية الشرقية، لقلت منبهتا: سبحان الذي يحيي العظام و هي رميم … التهديدات الخاوية من أي محتوى هي نفسها، التطرق الدائم لمؤامرات من الشرق و الغرب هي ذاتها، النرجسية الفاقعة التي تُفهمك أن المنشد نابغة أكبر من هذه البلاد و المنطقة و العالم كله، و أنه من غير هذا المكان و هذا الزمان … إضافة إلى الهزء الدائم من منظومات الحكم اشتراكية كانت أم رأسمالية أم ديمقراطية أم دكتاتورية أم ديمكتورية، و دغدغة لغرائز السامعين بأن عليهم أن “يزحفوا” و يستولوا على السلطة فلا سلطة سوى سلطة الشعب و الشعب، و هُم الشعب و شعب الشعب …
فرق آخر نسيته … الآخر كانت له بعض شجاعة (و لو لغوية) بأن يسمّي أعداءه أي أعداء الشعب و الأمّة و الجماهيرية العظمى … كان يسمّيهم حقّا رغم أنه يتراجع بسرعة في ما بعد تحت التهديدات و ينتقل إلى تسمية أعداء لم يحمّروا عيونهم عليه بعد … أما هذا، فخذ ما تشاء من رهان و ها هي لحيتي إن ذكر لك اسما واحدا أو مكانا أو عنوانا أو واقعة أو جريمة أو متّهما، من هنا إلى انتهاء ولايته في الحكم … بطل في التعميم و العموميات و التلميحات الفارغة و المبني للمجهول و التدخيل من باب و التخريج من خوخة … إلى درجة أنك تتعب أخيرا و تضجر من هذا المسح السريالي الذي أضاع وقتك …
و لكنه ـ لو نعلم ـ يُكسب صاحبه المزيد من الوقت حتى الوصول إلى 2024 …