عندما يتزامن احتفال اللباس التقليدي مع اليوم العالمي للرياضيات… يفوز الكبّوس وينتكس “السّينوس” !
نشرت
قبل سنتين
في
14 مارس هو اليوم العالمي للرياضيات، و 16 مارس اليوم الوطني للّباس التقليدي التونسي : حدثان مهمّان عشناهما خلال الفترة الأخيرة ولكن ليس بنفس النكهة ولا بنفس الرّوح وذات درجة الإقبال.
ازدانت جميع ساحات مدارسنا خلال الأسبوع الماضي بجميع أنواع الحُليّ والجبّة والبرنوس والشاشيّة فوق الرؤوس والسّراويل المطرّزة والصدريّات المبرقشة في سياق الاحتفال باليوم الوطني للّباس التقليدي، وهو تقليد محمود لأنه يُعزّز الشعور بالانتماء ويُبرز عناصر بديعة في هويّتنا الوطنية وموروثنا الثقافي، ولكن عندما يتزامن الاحتفال واسع النطاق رسميا وإعلاميا ومدرسيّا بزينة المظهر وزخارف الملبس مع غياب مطلق وصمت مُطبق إزاء حدث جلل خصّص له المجتمع الدولي يوما عالميا وهو اليوم العالمي للرياضيات (وما أدراك ما الرياضيات) … يُصبح الأمر مدعاة للحيرة والتساؤل عمّا يجعل وزارة في حجم ومكانة ورمزيّة وزارة التربية في وجدان جميع التونسيين، لا تعير اهتماما لهذا الحدث الكوني وخاصة في تونس بالذات المُشرفة مدارسها على تطليق الرياضيات بالثلاث.
إن كان الأمر عفويا ومن قبيل السّهو، فعذرا حقا لأن البلدان لا يسيّرها العفويون والمزاجيون والانفعاليون، وإن كان التعتيم مقصودا فتلك مصيبة أكبر وأبشع.
أية قيمة للرياضيات ولماذا اليوم العالمي للرياضيات ؟
لا يمكن الاجتهاد في باب الوقوف على مكانة الرياضيات وأهميتها، لأن فوائدها ودورها في بناء العقل وتطوير جميع مجالات العلوم الأخرى أضحت من المسلّمات والحقائق العلمية البديهية التي أكّدها مسار الانسانية الطويل في اكتشاف ما به، تطوّر الطب والفلك والصناعة والفلاحة والملاحة وصولا إلى الحوْسبة والاتصالات والحروب الالكترونية والقذائف المسيّرة … والقدرة على كتابة نصوص أدبية وشعرية في نفس مستوى ما كتبه المتنبي وبودلير و”إدغار آلان بُو” بواسطة تطبيقات الذكاء الاصطناعي الجهنّمية الجديدة.
فالرياضيات تُدرّب على التفكير وحلّ المشاكل، والرياضيات تغذّي التفكير النقدي وتصقله أي تنمية القدرة على تطوير شكّ عقلاني يسمح بالتثبّت من أية معلومة، والتمييز بين ما هو خاطئ وما هو صحيح بناءً على برهنة موضوعية وعلمية دقيقة، والتدريب على التصرف في وضعيات مركّبة وإكساب القدرة على إجراء تحليل جيد قبل اتخاذ أي قرار أو القيام بأي ردّ فعل…
والرياضيات تسمح كذلك بتطوير المهارات المنطقية وإضفاء مرونة حيويّة على الخلايا الدماغيّة. كما تُفيد الرياضيات في حلّ عدد لا محدود من مشاكل الحياة اليومية، مثل إجراء الحسابات المالية والعمليات التجارية وتقييم هوامش الربح والخسارة وعمليات القيْس وإعداد الأطعمة حسب مقادير مدروسة، وأشغال الزراعة والنّجارة والحِدادة والبناء والتبليط وقيس الأراضي ومدّ الجسور وتوزيع المواريث… فكلها أنشطة بشرية تستدعي منطقا وعقلا حاسِبًا وفق قواعد رياضية مضبوطة.
لماذا نبكي واقع الرياضيات في تونس ؟
لا يخفى على أحد اليوم التراجع المأساوي الذي يشهده واقع دراسة الرياضيات وتدريسها في تونس اليوم، خاصة في ضوء المؤشّرات التالية :
___الانكماش المُريع لشعبة الرياضيات كمسلك تخصّصي في التعليم الثانوي في كل المؤسسات التربوية دون استثناء، وبصفة خاصة في الجهات الداخلية التي ترتفع فيها نسبة المدرّسين غير المختصين والمدرّسين النوّاب والمعوّضين، والجهات التي لا تتوفّر فيها ظروفا موضوعية مُشجّعة على استقرار إطار التدريس وبالتالي تشكّل نواة صلبة ضامنة لعناصر جودة التكوين وبهجته (والنواة الصّلبة أو الكُتلة الحاسمة في الاقتصاد هي العتبة أو الحجم الذي معه تتحقق وفرة المردود والإنتاجية).
___المعاناة الحقيقية التي تواجهها مجالس الأقسام في نهاية كل سنة دراسية، من أجل إيجاد الحدّ الأدنى الذي يسمح ببناء قسم أو قسميْ رياضيات على أقصى تقدير في كل معهد، مما يؤدّي حتما إلى ضعف شديد في نسبة التوجيه خصوصا نحو شعبة الرياضيات ونحو الشعب العلميّة بصورة عامة.
___ثبوت العلاقة الطرديّة بين ضعف نسب التوجيه نحو الرياضيات والشعب العلمية بصورة عامة وبين نسب النجاح في الباكالوريا. فكلما زادت نسبة المُقبلين على التوجيه نحو هذه الشعب زادت نسبة النجاح في الباكالوريا، وكلما تقلّصت (مقابل ارتفاع التوجيه نحو الآداب والاقتصاد) تدنّت نسب النجاح في الباكالوريا. (تذكر الأرقام سنويا في هذا السياق أن الجهات الأعلى ترتيبا في الباكالوريا هي الجهات الحائزة على أعلى نسب التوجيه في الرياضيات والشعب العلمية والعكس بالعكس).
___الالتحاق بالشعب الجامعية المُثمّنة اجتماعيا وشُغليّا مثل الطب والهندسة واختصاصات المحاسبة والمالية والتصرف (في مؤسسات أكاديمية بعينها) والاختصاصات حول الإعلامية وتطوير التطبيقات والبرمجة… أصبح حِكرا على جهات ومؤسسات تربوية معيّنة حيث تزدهر نسبيا شعبة الرياضيات. خاصة أن “سوق الدروس الخصوصية” تنتعش بشكل كبير جدا في الجهات التي يكون فيها مستوى العيش والقدرة على الاستثمار في دراسة الأبناء أكبر، مقارنة مع غير ها من الجهات.
___ترسّخ فكرة “غول الرياضيات المُخيف” في أوساطنا المدرسية لأن مناهج تدريسها مُنفّرة وملمح مدرّسيها بصفة عامة في خصومة أبديّة مع منهج التّيسير وإضفاء أبعاد لعبيّة وتطبيقية من الحياة اليومية… إضافة إلى أن مقياس الرياضيات مُعتمَد في منظومة توجيهنا المدرسي “العتيدة” في كل الشعب باستثناء الاداب… بمعنى أن التلميذ الذي يبلغ السنة الثانية من التعليم الثانوي بمؤهلات محدودة في الرياضيات توصد في وجهه كل الأبواب باستثناء واحد فقط… لا يؤدّي حقيقة إلى آفاق واعدة.
ماذا كان بوسع وزارة التربية أن تفعل ؟
أقول بدءًا إنني لا أطالب وزارة التربية بأن تُطلق العنان لاحتفالات وفعاليّات فكرية وبحثيّة ودراسية (وترفيهيّة لِم لا ؟!) حول الحِساب والرياضيات تكون موجّهة إلى كل الأعمار وكل الفئات، في محاولة لنزع رداء الوحش عن مادّة من أمتع المواد وأذكاها لو نعرف كيف نقدّمها للناس وكيف نفكّ رموزها وكيف ننزع عنها قِناع الغلظة والقساوة … بل أطالبها فقط بأن تتوقّف ولو قليلا عند هذا الحدث الكوْني، وتُشعرنا بأن للتونسيين دولة تواكب نسق تطور العالم وتولي أهمية لما يحدّد اليوم درجة نموّ المجتمعات وما سيحدد مستقبلا المستوى الذي سيكون عليه رفاه الشعوب.
كان بوسع وزارة التربية :
أن توجّه تحيّة لمعلّمي الحِساب وأساتذة الرياضيات ومتفقّديها تُثني فيها على مجهوداتهم المبذولة في سبيل الذّود عن هذا الجواد المدرسي الأصيل والحفاظ عمّا تبقّى من جذوة مهدّدة بالانطفاء والاضمحلال النهائي، وتُلفت انتباههم فيها كذلك إلى المخاطر التي تتهدّد عرينهم بحكم مناخ النفور العام إزاء الرياضيات وتداعيات صورتها القاتمة على نفسية أبنائنا خاصة خلال فترة الامتحانات.
وأن تُطلق خطة وطنية من أجل تجويد تدريس الرياضيات وإعادة الاعتبار لشعبة الرياضيات في تونس التي كانت تستوعب إلى حدّ وقت غير بعيد خُمُس الموجّهين في التعليم الثانوي (في حين لا تسجّل اليوم أكثر من ثُمُن أو عُشُر ما يُوجّه نحو الاداب أو الاقتصاد والتصرف في جهات كثيرة).
وأن تدعو متفقدي المادّة وأساتذتها ومُعلّميها إلى تنظيم ورشات جهوية وإقليمية ووطنية لتدارس معضلة الرياضيات، وتشخيص العوامل التي حوّلتها عبر السنين إلى حاجز مُعيق وسببا من أسباب الفشل والانقطاع المدرسيين.
وأن تُطلق شعارا وطنيّا على هذا اليوم العالمي يكون نابعا من خصوصياتنا المحلية ويتم الاشتغال عليه وتقديم المقترحات بخصوصه مثل (الفتيات والرياضيات) أو (الرياضيات والعلوم التجريبية : هل يمكن إدماجهما؟) أو كذلك (الرياضيات في شعبة الاقتصاد أية أهمية؟) أو الرياضيات عند العرب القُدامى، الخ…
وأن يتمّ تنظيم أولمبياد وطنية للرياضيات تُرصد لها جوائز مُحفّزة بشكل حقيقي لا تستهدف التلاميذ “النوابغ” في الرياضيات فحسب، بل خاصة أولئك التلاميذ الذين يُبدون نفورا وتوجّسا وخوفا تجاه هذه المادّة.
ملاحظة أخيرة : يتّفق عديد الدّارسين حول العالم أن دراسة الرياضيات تكون أنفع وذات مساهمة أكبر في بناء شخصية متوازنة ورياديّة للتلميذ والطالب عندما تقترن بدراسة الفنون و/أو الرياضة… لأن ذلك يجعله يكتشف أبعادا أخرى لم يكن ليعرفها لو ظل حبيسا في عالم العلامات والرموز المجرّدة.