مرت أمس عشر سنوات كاملة على حادثة إقدام شاب على حرق نفسه تعبيرا عن حالة يأس مطلق من إمكانية الخلاص من بؤس مستفحل و مزمن … و قد تقصدت هده المقدمة الجافة حتى لا أجحف في توصيف الأحداث أو توظيفها تاركا للمؤرخين الأحقية العلمية في التعاطي مع حدث كانت له تداعيات التسونامي على تونس و البلاد العربية جميعا.
فضلت ترتيب خواطري عبر شهادات قد تفضي بنا إلى فهم هادئ لما نعيشه اليوم من ارتداد مفزع نحو المجهول. ففي يوم 17 ديسمبر 2010 أخرجت قناة الجزيرة الخبر في صياغة موجهة مدعية أن شابا من ذوي الشهائد العليا أقدم على إحراق نفسه أمام مقر “محافظة” سيدي بوزيد بعد أن تم الاعتداء عليه و صفعه من قبل موظفة … و على الفور جندت القناة مخبريها و الموالين لخطها لاستثمار الخبر و تحويله إلى مادة سياسية بامتياز وسط حالة من الاستنفار الشامل …
و من المضحكات المبكيات أن خصص الشيخ يوسف القرضاوي في برنامجه الأسبوعي آنذاك للكلام عن الحادثة من نظرة فقهية و استنتج أن الإسلام يعتبر الانتحار أو محاولة الانتحار جريمة … لكنه ما فتئ ان تراجع في الأسبوع الموالي بفعل طغيان السياسي على الفقهي ليستدرك أمره مطنبا في تعداد أسباب الظلم التي تؤدي إلى اليأس وراح يكيل الشتائم للنظام الحاكم باعتباره مارقا عن شرع الله … و لن أستفيض في الحديث عن الدور الذي لعبته الجزيرة في تلك الفترة و الذي تواصل بوتيرة محمومة ‘لى غاية يوم 14 جانفي … لكن الرجوع إلى مسار الأحداث في الداخل قد يجعلنا نستحضر البعض مما نسيناه في غمرة الضوضاء العارمة التي تلت هروب بن علي، بعيدا عن التوظيف الخارجي للأحداث و الذي صار مكشوفا اليوم …
و هنا تحديدا أرى أن من أسقط بن علي هو بن علي نفسه، لحقائق لا يمكن إنكارها و أهمها على الإطلاق أنه صار في شبه غيبوبة عما يجري في البلاد … بدا و كانه في غفلة تامة عن سيول الانتقادات لتصرفات اصهاره بالتفاصيل و الشواهد و الأدلة و بدا في عزلة عن الأجهزة الأمنية و الديوانية حيث أصبحت التسميات و التعيينات تتم بحسب الولاءات للعائلة الحاكمة و عمّ ما يشبه البرود الكامل بين القصر و سنده السياسي ممثلا في التجمع الدستوري الديمقراطي حيث تحول إلى وعاء فارغ إلا من الانتهازيين و السياسيين الرديئين … مقابل ذلك تحركت سيول من المجموعات الفاعلة في أدوات التواصل الاجتماعي و شكلت هبّة وعي قوية و دعوات صريحة للتغيير و قد وجدت هذه القوى سندا كبيرا في المنظمات الحقوقية و العمالية و قطاعات واسعة من النخب المؤمنة بمستقبل أفضل و أرقى لتونس …
و كان لهذا التناغم بين الاجتماعي المطالب بالعدالة و السياسي المطالب بنظام يرتقي إلى درجة الوعي التي سكنت المهج الشبابية خاصة، الدور الدافع لمواصلة الحراك إلى منتهاه أي الحسم مع أسلوب الحكم السائد … لذلك يبدو من المعيب على الذين استحوذوا على السلطة فيما بعد، الادعاء بأن ما حدث في تونس هي ثورة جياع أو الادعاء بأنهم كانوا وراء حدوث الثورة و بالتالي الاستفراد بكسب المغانم و احتلال مواقع الحكم … بل أنهم راحوا يكيلون الشتائم و النعوت النابية لمن تحملوا فعلا أعباء و مخاطر مقاومة الحكم القائم.
و لعل ما يهمنا من استحضار هده الحقائق هو محاولة فهم عزوف ثلاثة أرباع من التونسيين عن الانخراط في معارك سياسية يرون أنها لا تعنيهم و عن الانتماء إلى محاور سياسية لا تمثلهم و لا تعبر عنهم. لقد ساد الانطباع في معظم الأوساط أن المتحكمين في إدارة الشان العام لا يمتلكون الجدارة و لا الوطنية الصادقة لتحقيق مطالب الشعب …لا يرون فيهم سوى كتل من المتهافتين على السلطة و الكسب بكل الطرق الممكنة و لا يرون فيهم سوى شخوص لا تتورع عن الكذب المفضوح الصارخ للبقاء في الحكم أو لمحاولة الوصول إليه …
إذ كيف للشعب أن يحتفل بذكرى مرور عشر سنوات على نكبة حلت به دون أن يقترف جرما أو إثما؟ فالشعب التونسي ككل شعوب العالم لا يبحث في نهاية الأمر إلا عن دولة مستقرة يحكمها القانون و يسيرها ذوو الكفاءات التي تعج بها البلاد في كل المستويات و القطاعات … و أي ذنب لكل تلك الجموع التي هبت ثائرة على أوضاع سائرة نحو التردي طامعة في تونس أجمل و أرقى لتكتشف اليوم أنها وقعت بين مخاالب المنظّرين للرجوع إلى القرون الوسطى و المتهافتين على ما اكتسبه الشعب على امتداد أجيال لتخريبه و تحويله إلى ركام ؟؟
لذلك لن أسمح لنفسي بأن تعتبر ما جرى لتونس ثورة لأن الثورة فعل بناء و متى كان الهدف من الثورة الارتداد إلى وضع أشد رداءة و قتامة من لحظة حدوثها ؟ بل أزعم أن الثورة التي يرتجيها التونسييون لم تحصل بعد أي ثورة القيم الديمقراطية الحقيقية و ثورة العدالة الصماء في وجه الظلم أيا كان مأتاه ثورة تعيد للمصعد الاجتماعي دوره في الإنصاف بين الغني و الفقير، ثورة تجعل التونسي مطمئنا على صحته و مستقبل أولاده ….هذه هي الأهداف النبيلة من الثورة فهل يقدر الشعبويون و المتشعبطون و باعة الأوهام و اللصوص على تحقيقها؟؟
تبقى الكلمة السحرية الوحيدة التي سوف تكفل لتونس التخلص من كوابيسها هي.. الوطنية .. و متى تنبه الوطنيون إلى دورهم في تعديل المسار سيكون لتونس مستقبل افضل.