غريب ما تعيشه البلاد منذ يوم الخيبة الموافق لليوم الأول من الليالي السود لسنة 2011 إلى يومنا هذا من سنة 2023…فبعد ذلك اليوم انقلبت البلاد رأسا على عقب وأصبح “قطاع الطرق” من الأشراف، وأصبح الأشراف يُرْمَون بالحجر…والأغرب من كل هذا أن الذين استيقظوا بعد “يوم الخيبة” استيقظوا من أجل غاية واحدة، الجلوس مكان من هربوا “يوم الخيبة” بأي ثمن، حتى ولو كان الثمن شوارع من الدم…
<strong>محمد الأطرش<strong>
حاصروا بناية محمد الخامس وكأنها هي من كان سببا في ما يريدون إيهام العالم بأنهم عاشوه ويعيشونه فقذفوها بالحجارة للتنفيس عن حقدهم الدفين…يومها كانوا على استعداد للقتل والشنق والحرق والسحل وقطع الرؤوس وكان أغلبهم يتصوّر أنه على حقّ…وكان منهم من خرج ذلك اليوم من أجل السلب والنهب والغنائم، فالبلاد أصبحت مرتعا لمن تحيلوا على العالم بكلمة النضال، وكأن البلاد كانت ترزح تحت نير استعمار دموي فاشي رهيب، والحال أن أغلب هؤلاء كانوا يعملون بمؤسسات حكومية ويمارسون حياتهم بطريقة طبيعية…
هكذا خرج من امتلأت قلوبهم حقدا ذلك اليوم من أجل الانتقام دون سبب يدعو إلى الانتقام فمن لم ينجح في التدرّج الوظيفي أصبح بلغة “ثورة السكّير” مناضلا، ومن حُرِّر في شأنه محضر مروريّ أصبح بلغة “ثورة السكّير ” مُلاحَقا من نظام بن علي …ومن اعتدى على زميله في العمل فعوقب بالطرد شهرا من عمله أصبح بلغة “ثورة السكّير” معارضا لنظام بن علي…ومن قبض عليه وهو يحاول القفز إلى بيت جارته أصبح بلغة “ثورة السكّير” حقوقيا مهضوم الجانب…ومن اغتصب طفلة في عمر الزهور أصبح بلغة “ثورة السكّير” مناضلا مُنع من أداء مناسك الحجّ !…
هكذا وبغير هكذا تحيّل جزء كبير من هذا الشعب على بقية هذا الشعب وعلى العالم…وأصبح في نظر هؤلاء، كل من انتمى للحزب الحاكم يعتبر قاتلا وفاسدا ومتحيلا وسارقا ومغتصبا وفاشيا ومستبدا ومتغطرسا…ولم تسلم حتى قطط بعضهم وكلاب بعضهم من انتقام بعضهم بلغة تطهير البلاد من بقايا النظام…فمن جالس “زلما” أصبح مثله…ومن صاهر” زلما” أصبح مثله…ومن ضحك لـــ”زلم” أصبح مثله ومن ألقى التحية على” زلم” أصبح مثله…وانقسمت البلاد “أزلاما” و”ثوارا”…وتواصلت شيطنة أجيال بأكملها حتى ما قبل انتخابات أكتوبر 2011 حين انقلب الحقد على “الأزلام” ودّا ومراودة وطلبا لقربهم…فخرج الشيخ يقول “من دخل بيت راشد فهو آمن”….وخرج البعض الآخر متمسكا بخطابه الدموي الانتقامي” سنرمي بكم في البحر”…فنجح الشيخ في ما أتاه وخسر دعاة القتل بما كانوا يدعون إليه… فهرب من قرر الذهاب إلى مكاتب الاقتراع، إلى بيت راشد انتقاما من الذين وعدوهم بالشنق والسحل والويل والثبور وعظائم الأمور…
بعد جلوس جماعة راشد ومن صاهرهم وعاشرهم وجالسهم وصاحبهم على كراسي الحكم، اصطدموا بواقع مخالف لما كانوا يتصورونه فتسيير شؤون دولة ليس بالأمر الهيّن وليس كما كانوا يتصورونه، ودون سابق إعلام عادوا إلى خطاب التطهير والحساب والعقاب وبدأت المطاردات وإفساد الاجتماعات وتهديد القيادات…وصولا إلى ما قبل انتخابات 2014 حينها عاد الجميع إلى مراودة “الأزلام” على أصواتهم فأصبحوا بقدرة قادر أبناء بورقيبة العظيم وأبناء من بنوا البلاد وصنعوا الأمجاد…هكذا تأرجح بعضهم بين “لا نحبك لا نصبر عليك” خوفا من أن يبصق “الأزلام” في صناديق الاقتراع فيعود بعضهم إلى أحجامهم الطبيعية أقزاما…
هكذا تصوّر بعض المتحيلين من “الحكوكيين” و”المناذلين” أن “الأزلام” ليسوا أكثر من وقود انتخابات يأمرونهم بالحشر يوم الحشر، ثم يعيدونهم إلى مراكز إيوائهم بعد انتهاء مهمتهم…هكذا خيّل للبعض أن أبناء بورقيبة وأجيال البناء لم تعد صالحة لغير مهمّة البصاق في صناديق الاقتراع لصالح أحدهم… فهؤلاء لم يعيشوا تحت نير الاستعمار…ولم يعرفوا الخصاصة…ولم تكن مساكنهم عبارة عن كوم من الحجارة والطوب قد يسقط في أي لحظة ليقتل الجميع…هؤلاء لا يعرفون الأكواخ والمساكن البدائية…هؤلاء لم يقرؤوا في كتب التاريخ أن من بنوا البلاد كانوا ينامون إلى جانب دوابهم….هناك يأكلون…هناك يقضون حاجتهم…هناك يعيشون…كانوا على تناغم تام مع “القمل” و”البرغوث” و”البق”….لا يعرفون مدرسة ولا معهدا ولا جامعة…لا يعرفون الطبيب أبدا، أدويتهم بعض أعشاب يجمعونها في كل ربيع….هكذا كانوا وسعدوا بما كانوا….فأطردوا المستعمر…وبدؤوا البناء وأكملوا البعض منه، حتى جاء جيل “السكّير الشهيد” لينعتهم بأبشع النعوت ويتهمهم بأفظع التهم….دون استثناء…
اليوم بعد اثنتي عشرة سنة من “ثورة السكّير” ماذا تغيّر في البلاد وللعباد؟ لا شيء…فكل يوم يسوء حال البلاد والعباد…وكل يوم نفتقد مادة من المواد الأساسية…وكل يوم تشتعل النار في الأسعار ولا أحد ينجح في إطفائها…وكل يوم يعاني بعضنا الهرسلة والتضييق لأنه قال ما لا يجب قوله… أو كتب شيئا اغضب السلطان… وكل يوم يبتلع البحر قربانا… فبعد أن غنى بعضنا سنة 2011 “أقبل البدر علينا” استقبالا للشيخ…سقط أغلب الشعب في نفس الفخّ بإيعاز ممن غنى له أول مرّة “أقبل البدر علينا” فأعاد نفس ما تغنّى به سنة 2019 وهتف بصوت واحد “أقبل البدر علينا” استقبالا للخليفة المنصور…فانقلب البدر بردا…فغنى الجميع وهم يلطمون ويندبون حظّهم العاثر …”أقبل البرد علينا …يا ترى ماذا جنينا؟”…فعن أية ثورة يتحدثون…وباي بدر يتغنون…؟؟