منبـ ... نار

غسّان كنفاني في فضاء غزّة

نشرت

في

8تموز1972) الذكرى السنوية لاغتيال غسان كنفاني: اختزال الشخصية وتشييئها -  الملتقى الفلسطيني

إن تفاقم الجريمة الصهيونية في غزة خاصّة منذ 7  أكتوبر  المنقضي وإنّ هول الدّمار وأشكال الموت التي تحمله إلينا الصورة بكل أصنافها قد يخلّف فينا – بالإضافة إلى التعاطف الإنساني اللامشروط – مشاعر أخرى متضاربة غريبة.

<strong>فتحي بوغرارة<strong>

 وأزعم أنّ بعض هذه المشاعر على الأقل غير مسبوق منها الخجل من أغلب ما وضعناه سابقا في خانة الصعوبات والمشاكل، ومنها الإحساس بما يمكن تسميته “بالفخر الهش” ونحن نتابع إصابات يوميّة تحققها المقاومة الفلسطينية الباسلة في صفوف العدو الصهيوني المرتعب، ولكنها إصابات لا تُنسي ما بقي فينا من عقل تباعد موازين القوى الحربية والمالية في هذه المعركة ولا تُنسينا تجدّد خذلان حكومات العرب لشعوبها، فتتجاور بوارق الفخر فينا مع ما أدمنّا عليه من عميق الحزن والخسران العربيين …

حين فكّرت مرارا في كتابة بعض الكلمات تصدمني الصور مجددا لتحمل أهوالا صباحية وليلية جديدة، فتكتئب الكلمات وتنكمش ثم تذوي، فما الكلام الذي يمكن أن يكون في مستوى هذه المأساة/ الملحمة الفلسطينية؟ ما الذي يمكن أن تقدمه كلمات تائهة متردّدة إلى هذه المقاومة الجبارة وهي تعاند الموت كل يوم ؟…

إلى أن شاهدت يوما في إحدى القنوات شيخا يجلس على تلّ صغير من الحجارة هو ما بقي من منزله المدمّر ضمن حيّ سكني سُحق بالكامل في مشهد جحيمي، حمد الصحافي الله على سلامة الشيخ ثم سأله : “وين بدك تروح يا عمّ؟” فأجابه “وين بدّي روح، أنا قاعد هون على حجارة بيتي”، وهنا لمع في ذاكرتي  غسّان كنفاني لأنه – في تقديري في تلك اللحظة- أقدر الناس على فهم الدلالة العميقة لعبارة “حجارة بيتي”، فليس الحجر عند هذا المسنّ الأبيّ مجرّد حجر، وليست أرض غزّة وبحرها عند الغزّاويين مجرد أرض وبحر وليست أسواق القدس وأنهجها عند المقدسيّين مجرّد أسواق وأنهج، ليست مجرّد أمكنة أو أشياء. إنّها “فضاءات حميمة” مؤثثة بقطع الرّوح مكتنزة بجواهر الذات، كيف لهذا الرجل أن يعتبر بيتا شيّدته يداه ووضع بين جدرانه عمره وعمر زوجته  وأبنائه ثم ارتوت الأرض المقام عليها من دماء شهيدين من أبنائه كيف له أن يراه حجرا …مجرد حجر،  تذكّرت كنفاني الذي أعطى ما أعطاه للسرديّة الفلسطينية من جمالية كونيّة في رواياته الأربع المكتملة [1] ، فتراءى لي وقد مثّل بحياته وموته صورة لا تضاهى تجمع في اتّساق عجيب بين المقاومة المسلّحة بخلفيتها السياسية من جهة والمغامرة الجمالية الأدبية من جهة ثانية، كان  من أهمّ قيادات الجبهة الشعبية مقاوما للمحتلّ وللرجعية العربية وللمرض [2] ومع ذلك وجد القدرة ليعطي بعضه خالصا للأدب وخاصة للرواية من حيث هي مُنجز فني يطلب الكونيّة وإن كان ذا محمول سياسي.

غسّان كنفاني هو بالتّأكيد من أقدر الروائيين العرب على “تفضية الأمكنة”  في سرده الروائي [3](La spatialisation des lieux)  فيخلّصها من بعدها الجغرافي المرجعي ويحلّق بها في عالم المعاني والقيم الكونيّة، “فالمكان – عنده- هو المادة التي يتشكل منها الفضاء  الذي يتخذ عبر مسار الحكاية جوهره الذهني الاستعاري “.

كان غسّان كنفاني مثالا فريدا [4] للجمع بين الالتزام السياسي والحرّية الجماليّة، فبعض رواياته فيها تجريب وانفتاح على آخر أساليب السرد الروائي في زمنه (استفادته من تيار الوعي في روايته “ما تبقى لكم” مثلا)، وقد يكون هذا الجمع هو أخطر ما لاحظه العدو الصهيوني ليعجّل باغتياله، فأعطى بموته الدليل على جدوى الكلمة وفعلها.

وليس من الصدفة في شيء أن تكون الأرض موضوعا مركزيا في روايات كنفاني خاصة وفي الرواية الفلسطينية والعربية عامة، فلقد كان الفلسطينيون الشاهد الأبرز على فقدان الأرض والبيت و”العش الأليف” على حد عبارة غاستون باشلار، على فقدان الأرض زمن الاحتلال المغتصب قاتل الأطفال ومُهجّرهم.

 الفلسطيني منذ صغره متمسّك بالكلمة لأن أرضه وبيته مهددان باستمرار، ليست الكلمة والذاكرة والحلم عنده ترفا ولا مجرد لعبة مجازية إنما هما عماد للبيت الفلسطيني الأكثر أمانا منذ بدأ التهجير، لذلك يجب أن نتوقف عن بلاهة الاندهاش من فصاحة الأطفال الفلسطينيين أمام أعين الكاميرا وخاصة حين ينظرون في أعين جنود العدوّ.

الشعب الفلسطيني محكوم بالشعر والشعريّة لأن الشعر عنده ليس مجرّد كلمات منظومة موقّعة، إنه أسلوب حياة ومسألة بقاء، فأمام تهاوي العالم واندحار القيم كلّها لا خيمة تؤويه وتقيه غير خيمة الكلمة.

ربما لهذا كلّه ولغيره لم يفلت كنفاني طيلة حياته الغنيّة الشجاعة الحزينة عنان الكلمة، لذلك علينا أن نحتفي به في هذه الأيام الصعبة الموجعة، فيكون التذكير برواياته وقصصه ومسرحياته وإعادة نشرها وتوزيعها شكلا من أشكال مساندة القضية الفلسطينية عبر تجذيرها في فضاء الذاكرة الإنسانية بالكلمة الكونية الخالدة.  

إني أرى غسّان يستيقظ صباح السّابع من أكتوبر، فيقول مبتسما بعد سماع أول الأخبار: “ها نحن ندقّ على جدران الخزّان بقوّة هذه المرّة”.


هوامش:

[1]نشر غسّان كنفاني أربع روايات مكتملة هي: رجال في الشمس، ما تبقى لكم، أم سعد، عائد إلى حيفا، ثم نشرت بعد موته روايات أخرى لم يتسن لغسّان إنهاؤها وهي : برقوق نيسان، الأعمى والأطرش، من قتل ليلى الحائك؟

[2] كان مصابا بمرض السكري

[3]  اهتممت بهذا الموضوع في نطاق رسالة ماجستير في الأدب الحديث نافشتها سنة 2006 بكلية سوسة للآداب، لجنة متكونة من الأساتذة الأفاضل: أحمد حيزم رئيسا، محمد رشاد ثابت مؤطرا وعبد الله تاج مقررا، وقد أنجزتها تحت عنوان “إنشائيّة الفضاء في قصص غسّان كنفاني الروائي”

[4]  يقول يوسف إدريس في مقدمة الأعمال الكاملة لغسّان: “أحسست لأول مرة بفخر أني كاتب من كتاب القصة العربية حين استشهد غسان كنفاني”.

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version