جور نار

فتاة الأربع سنوات … والسعادة الوطنيّة الخام !

نشرت

في

حادثة جرجيس …  حادثة جبنيانة .. العائلة التي لقيت حتفها في مركب الحرقة .. فتاة الأربع سنوات … كلّها حكايات من ألف حكاية و حكاية حول الحرقة بعضها كانت نهايته سعيدة و أغلبها خلّف حُرقة ولوعة في نفوس العائلات منذ سنوات و مازال النّزيف متواصلا ..

<strong>عبير عميش<strong>

ظاهرة الحرقة ليست جديدة و الحكايات حولها لا يمكن أن تنتهي ما لم تنته سياسة حرمان الانسان من حق أساسي من حقوقه هو حق التّنقّل وحرّية التنقّل و ما لم ينته تقسيم العالم إلى بلدان شمال و بلدان جنوب

و تيّار الهروب أو ” الهجّة ” من البلاد لا يمكن أن يتوقّف مادام التونسي لا يرى بريق ضوء في عتمة هذا النّفق الذي تسير فيه البلاد و تسير فيه حياته و مادام لا يرى مستقبلا واضحا أمامه … و ما تضاعف أعداد الحارقين و المهاجرين منذ 2011 و ما قبلها إلا دليل على ضبابيّة الرؤية و عمق الأزمة التي تعيشها بلادنا على جميع المستويات

و إنه لمن العيب أن نتخفى وراء شاشات حواسيبنا و هواتفنا لنلقي باللوم على من يقررون الارتماء في أحضان المجهول … و إنّه لمن غير المنصف أن نضع رِجْلا على رجل في أحد المقاهي أو في  صالونات النّزل لتقريع من جمعوا الأموال لأبنائهم أو من شجعوهم على ركوب البحر  … فالمثل يقول ” ما يحس الجمرة كان اللي يعفس عليها ، و ما يلزّك على المرّ كان اللي أمرّ منو”  …و المسؤوليّة تتحمّلها الدّولة و من هم في السّلطة  قبل غيرهم، فمن يتقدّم للعمل العام من  واجبه أن يجد الحلول و من يرغب في قيادة بلاد عليه أن يحسّن أوضاع شعبها

يقول الكثيرون ” فلوس الحرقة اعمل بيهم مشروع ” فهل تدركون حجم البيروقراطية المقيتة التي تكبّل أصحاب المشاريع في هذا البلد ، و هل تعرفون حجم الضغوط التي تسلّط على المبتدئين من أصحاب المشاريع الصّغرى و الإجراءات و العراقيل التي تعيق أحلامهم و طموحاتهم و تجعلهم يلعنون اليوم الذي فكّروا فيه في العمل للحساب الخاصّ ؟

في بلد لا يتجاوز فيه الأجر الأدنى المضمون 460 دينارا أيّة أحلام يمكنها أن تتحقق و أيّ عيش كريم يمكن أن يضمنه الانسان ؟ انسان هذا الزمان … فما كان يرضى به آباؤنا و أجدادنا سابقا لم يعد يُرضينا و لا يُرضي أبناءنا في زمن التّطور التكنولوجي و وسائل الاتصال الحديثة و  العالم المفتوح و الاطلاع على ثقافات العالم و طرق عيش الشّعوب

ال460 دينار التي يجنيها الأجير طيلة شهر كامل  يصرف أضعافها العرف في سهرة واحدة

ال460 دينار التي يعمل لأجلها ثماني ساعات يوميّا هل ينفقها في الكراء أم في النّقل أم في الغذاء أم في مدارس الأبناء ؟…

و حتّى و إن تجاوزنا الأسباب المادّية فيجب أن لا ننسى أنّ من يرغب في الهجرة هو شخص لا يرغب إلاّ في العيش بكرامة  حيث أنّ النظرة إلى الحياة  و الأولويات تغيّرت و صار الفرد يرغب في الترفيه و في رفاه الأبناء و ضمان تعليم جيّد لهم .. من يرغب في الهجرة هو شخص فقد كلّ شعور بالانتماء إلى وطن لم يحقق له السّعادة المرجوّة رغم حديث رئيسه عن النّاتج الوطني الخام من السعادة ، وطن لم يشعره بكينونته وانسانيّته .. وطن يقزّم كفاءاته و يعلي من شأن مجموعة من المغمورين لا لشيء إلا لأنّهم من أصحاب الولاءات

هذا إن نظرنا إلى الهجرة عموما أو إلى الحرقة في مستواها الأوّل .. لكنّ الكثيرين يعلمون أنّ الحرقة صارت ظاهرة كونيّة و ليست حكرا على تونس و أنّ شبكات عالميّة متداخلة المصالح تنشط في هذا المجال من “تجارة البشر”  و عديد الحوادث و الحكايات تؤكّد ذلك

و إن عدنا إلى حادثة فتاة الأربع سنوات التي انقسم فيها الرأي العام ( كدأبه في كلّ المواضيع في بلادنا ) لأدركنا خطورة الوضع …فلئن كانت السلطات الإيطالية عبّرت عن رغبتها في السّماح لعائلة الفتاة بالالتحاق بها و لئن كنّا – للأسف – نرى أنّ مصلحة الفتاة تقتضي بقاءها هناك حتى تتوفّر لها الرعاية الصحية و النفسية اللازمة  و حتّى تنشأ في بلد يحترم أبناءه … فإنّ من مصلحة البلاد أن تقع إعادتها إلى تونس و إلا ستصبح ظاهرة إرسال الأبناء القصّر بمفردهم موضة لدى الأهل الراغبين في الحرقة من أجل تيسير دخولهم إلى الأراضي الأوروبية  بل قد تتطوّر أكثر فتنتشر ظواهر خطف الأطفال للاتجار بهم ..

حادثة الفتاة و صورها التي جابت العالم كان بالإمكان توظيفها واستعمالها كورقة ضغط من السلطات التونسية للتفاوض من جديد حول نسبة تونس من الفيزا الممنوحة من بلدان الاتحاد الأوروبي و اشتراط التناسب بين عدد الكفاءات الذين تسمح تونس بخروجهم  من أطباء و مهندسين و أساتذة و غيرهم ممن تتسابق بلدان الشمال على استقطابهم، و بين عدد الحرفيين و أصحاب الصنعة الذين يجب أن يهاجروا هجرة شرعيّة بعد أن يتلقّوا التكوين المهني اللازم

إنّ الحلّ الأمني و القانوني  لهذه الظاهرة وحده غير كاف للتّحكّم فيها و لابدّ أن تصحبه إجراءات ثقافيّة واجتماعيّا و خاصّة إرادة سياسيّة  لتغيير المعادلة و الضغط على الاتحاد الأوروبي حتى لا  يفرض علينا في كلّ مرّة إرادته …و لدينا من أوراق الضغط ما يسمح بذلك شرط أن يمسك بها مسؤولون لهم ما يكفي من القدرة التفاوضيّة ويتمتّعون أساسا بفائض من الوطنيّة 

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version