عندما يذبح التتار والمغول قطاع الإعلام … من الوريد إلى الوريد
نشرت
قبل 3 سنوات
في
تحتفل اليوم تونس كبقية بلدان العالم باليوم العالمي لحرية الصحافة…ومن يقول حرية الصحافة يقصد حرية الرأي والتعبير…فهل أصبحنا ننعم حقّا بحرية الراي والتعبير كما تمنيناها وحلمنا بها طويلا سابقا، أم هي مجرّد أوهام سرعان ما تنقشع كسحابة صيف أمام أول صدام مع السلطة…فرئيس البلاد حاليا يخطّط للذهاب بنا بعيدا نحو الحكم الفردي، فهل سننعم معه على الأقل بالمكسب الوحيد الذي حققناه بفوضى 2011 أم سنعيش رعبا وكابوسا لم نعشه سابقا…
المعضلة الحقيقية التي عشناها ولا نزال منذ يوم 14 جانفي هي سوء فهم غريب مريب لحرية الرأي والتعبير، فالبلاد تعيش إسهالا لا دواء له في عدد “الأقلام” ومنتحلي الصفة والاسماء الغريبة التي نبتت كالفقاع في كل زاوية من شوارع وأنهج البلاد، و مواقع التواصل الاجتماعي جلبت معها الفوضى والخراب لقطاع لم ينجح إلى حدّ الساعة في تنظيم نفسه ولملمة شتاته، فالمشهد اليوم يعيش شبه غياب تام للأطر التشريعية والمؤسساتية لحماية القطاع وأهله… ما تعيشه البلاد هو فهم خاطئ لحرية التعبير وصل إلى المسّ من أعراض الناس، والتشهير وتدمير سمعة بعض الأشخاص بهدف الانتقام، وتجاوز ذلك في العديد من الأحيان إلى تنمية شعور الحقد والضغينة بين الأفراد والمجموعات، فعقلية الانتقام والثأر غزت قطاع الإعلام على نطاق واسع واصبحت وسيلة للانتقام وتصفية الحسابات بين العديد من مكونات المشهد السياسي والمجتمعي بالبلاد…
كما وصل الامر في بعض الأحيان إلى إثارة النعرات الجهوية بين السكان…والأغرب أن يكون كل هذا مدفوع الاجر من أصحاب مؤسسات إعلامية ولدت حديثا لغاية في نفس يعقوب … فأغلب المؤسسات الإعلامية التي خرجت علينا بعد فوضى 2011 ولدت لغايات سياسية، وتحوّلت لأبواق دعاية لفائدة أحزاب وشخصيات بعينها…وبعضها لفائدة رجال أعمال روّضوا القطاع خدمة لمصالحهم وأغدقوا على بعض الأقلام المشبوهة عشرات الملايين من أجل أهداف مشبوهة أهمّها “تبييض الأموال”…كما أن شراء الذمم اصبح شعار المرحلة منذ 14 جانفي …فالعديد من الأقلام التي كانت تمجّد المنظومة السابقة لم تخجل ولم تستح من ركوب ظهر حمار “الثورة” لتنقلب على ما كانت تدافع عنه وتلمّع صورته داخليا وخارجيا…أغلب هؤلاء اليوم يتجولون بين اغلب القنوات الاذاعية صباحا والتلفزية مساء لخدمة مشغّل جديد يدفع الكثير من الأموال على الحساب…فهل حققنا حقّا مكسبا ثمينا بعد 14 جانفي أم غرقنا في وحل بيع الذمم وسيطرة راس المال على قطاع يعاني أغلب أبنائه البطالة والتهميش… وهل حقّا اصبحنا نعيش حرية رأي وتعبير كما كنّا نتمناها؟؟ وهل سنفقد حتى بعض الفتات الذي كسبناه من حرية الراي والتعبير، خلال قادم الأيام والأشهر مع منظومة حكم فردي تستعد للاستحواذ على مفاصل الحكم والسلطة وأنفاس الشعب؟
أظنّ أن المشهد الإعلامي اليوم اصبح مخجلا وخطيرا في نفس الوقت، فلكل منظومة حاكمة مرتزقتها من الإعلاميين والمدوّنين فإن تطاولت يوما على أحد أطراف منظومتهم فإنك ستنال عقابا لم تعشه سابقا من جيش من المدوّنين ومنتحلي الصفة…فالهرسلة والتضييق والشيطنة والتشهير والمسّ من الأعراض وتلفيق الروايات الغريبة العجيبة، وفبركة الفيديوهات الخادشة للحياء أصبحت عناوين المرحلة، ولا أحد يمكنه النجاة بنفسه من هذا المدّ “التتاري والمغولي” في قطاع أصبح في قبضة غرباء عنه لم يكتبوا يوما سطرا واحدا في مجلة أو صحيفة او حتى في خاطرة تنشر في بريد القرّاء…والأغرب أيضا أن بعض هؤلاء الغرباء عن القطاع كوّنوا عصابات ابتزاز لرجال الأعمال وبعض السياسيين، والعديد من رجال المنظومة السابقة التي عاشت رعبا لم تعشه أية منظومة سياسية في الدول التي عاشت مصيبة “الربيع العربي” المزعوم…وفي يومنا هذا يقبع الكثير من رجال الأعمال والسياسيين في السجون بسبب ممارسات بعض هذه العصابات الخارجة عن القانون والمحمية من أطراف لا أحد يعلم من تكون…خلاصة ما نعيشه اليوم في قطاع الإعلام والنشر دمار شامل مسّ القطاع وقضى على مستقبل المئات من الصحفيين الذين تخرجوا خلال عشرية زعموا أنها عشرية حرية رأي وتعبير…
رغم هذا المشهد المأسوي لقطاع يترنّح لا يزال بعضهم يحاول إقناعنا بأننا حققنا حقّا مكسبا ثمينا بعد 14 جانفي….أتريدون إقناعي أنا بالذات أني حر في قول ما أريد متى أريد دون أن يؤاخذني عن ذلك أي كان…ودون أن يهدّدني أي كان علنا كان أو سرا…أتريدون إقناعي أن لا أحد في تونس يتعرّض إلى الهرسلة والتشويه والتهديد الضمني لأنه قال كلمة أغضبت أحدهم…وجهر بحقيقة سببت الغثيان لأحدهم…في تونس اليوم تدحرجنا إلى أسفل في حرية القول والتعبير…فالهرسلة والتهديد والتضييق والتعتيم ضمني لا يراه البقية بل يتعرّض له كل من يخرج عن النصّ عند البعض ويقول حقيقة تؤلم بعضهم…في تونس اليوم يريدونك أن تصدّق أنهم على حق في كل ما يفعلونه وأن “ثورتهم” أو “انقلابهم” الذي جاء ليحيل “ثورتهم” على التقاعد الوجوبي هو صاحب الفضل علينا في أكلنا وشربنا وحتى أنفاسنا التي نتنفس…لا تصدّقوا ما يزعمونه عن حرية التعبير والصحافة….فتونس اليوم تعيش تحت غطرسة فوضى شعارها “إن لم تكن معي …أنت ضدّي” والغريب أن بعض من يعتبرون أنفسهم نخبة يصفّقون ويسعدون بما يعيشونه…فقط لأنهم يكرهون الطرف الآخر ولأنهم يعيشون “فوبيا” الأعداء والخصوم ولأنهم جبناء…في تونس اليوم التضييقات والهرسلة لا تأتيك من الطرف الحاكم فقط بل أيضا من أطراف لا دخل لها في الحكم ولا هم يحكمون…فلا تخدعونا بقولكم “حرية التعبير”….في تونس اليوم إن كتبت نصّا راقيا تصبح خطرا عليهم…وإن نشرت نصّا “بورنوسياسي” فقد يسكتون عنك ويضحكون ويمرون فأنت لا تمثل تهديدا لوجههم الحقيقي… فقط لا تكتب نصا يكشف “حقيقتهم” ويسقط قناعهم وما يخططون …
في تونس نعيش مع أناس لا يملكون من سلامة الفكر شيئا…ولا من الحكمة والعقل ما يروى به عطش العقول …ولا من الحجة ما يغلب به الآخر….ولا من الرأي ما يكسب به معركة الرأي…ولا من المنطق ما يلجم به أفواه المشككين….فلا تخدعونا نحن…واخدعوا البقية…وللحديث بقية يوم أكون خارج نطاق التغطية…