إذا كانت قراءة البعض لما وقع البارحة لخطاب قيس سعيد في سيدي بوزيد تركّزت على المحتوى و تركيب الجُمل و نبرة الصوت (المتشنّجة أكثر من اللزوم) و سلسال الوعود و التسآل عن غدها الذي طال انتظاره … إذا كان البعض اختار أن يحلل و يناقش النص و صاحب النص، فهم أحرار في ذلك …
أحرار في مواصلة مساءلة الخطاب و صاحبه، بالتوازي مع مواصلة الخطيب قول كل شيء دون أن يقول شيئا، فضلا عن حقهم في تسجيل غياب أي فعل ملموس منذ شهرين بتمامهما … نعم … هذا لو كان الخطاب عاديا في ظروف عادية إلقاء و استماعا و بثّا و استقبالا … كل ذلك النقد كان يمكن أن نمارسه بدورنا و قد عبّرنا عن ذلك في أكثر من مناسبة، قبل 25 و بعدها و منذ حتى انتخابات 2019 و ما أسفرت عنه … و لكن الذي لفت انتباهنا الليلة البارحة لم يكن الخطاب بل الظروف التي حفّت بالخطاب … و دعونا هذه المرة ننظر إلى الإصبع التي تشير إلى الهلال، لا إلى الهلال نفسه !
هذا طبعا تذكير بتلك المقولة عن أغبياء القوم الذين تريهم شيئا في السماء، فيتركونه و ينظرون فقط إلى يدك التي تشير بها … إذن لعبت البارحة دور غبيّ القرية و اكتفيت بتفصيلة صغيرة بدلا من الاهتمام بالموضوع الرئيسي … كلمة رئيس الدولة كانت هي الموضوع الذي من المفترض أن نحكي عنه مثل باقي الخلق … و لكن أوّلا هل كان هناك جديد في كلمته حتى يكون هناك جديد في تعقيبنا عليه؟ و هل سنغرق في نقاش بعض التخريجات التي لم تضف شيئا و لن يضيف الردّ عليها شيئا؟ و هل سنلتحق بركب المكفّرين لكن من ينكر أن يوم 14 كان ثورة؟ و هل سنعود مثل فارغي الشغل إلى المعاجم لنستفسر عن معنى “أجهض” و “تآمر” و “خان” و “اخرج” و “مثّل” و “شوّش” و “فشل” ؟
كل هذا ألقينا به جانبا … لأن ما صدمنا حقا هو تلك الرداءة البالغة في معدّات الصوت و التصوير و زاد على همّها انقطاع البث المباشر … مما أحرج مذيع نشرة الأخبار الذي فعل ما بوسعه لملء الوقت في انتظار عودة الصورة … و عندما لم تعد أنهى النشرة كأنه يقطع مكالمة مع مستمع، و قال السلام عليكم و رحمة الله و بركاته … و لم ينس في الأثناء أن يعطي ملخصا للدقائق الأولى من الخطاب، حرص فيها على أن يتبرّأ من بعض ما جاء فيه، مستعملا عبارة “على حد تعبيره” أي على حد تعبير رئيس الجمهورية … مما يوحي بأن السيد المذيع غير موافق و أنه يعلن ذلك إرضاء للا أدري من، بينما الحال أنك هناك محايد و لست من خصوم الرئيس و لا من أنصاره …
لأول مرة في تاريخ تونس الحديث، أي منذ أن وُجد عندنا رؤساء جمهورية و بث إذاعي أو تلفزي لتصريحاتهم حتى لو كانت في زيارة فجئية … لأوّل مرة تكون هناك أربعة ميكروفونات (منها واحد مثبت على ملابس المتكلم) ثلاثة منها لا تشتغل … و تكون هناك كاميرا ثابتة لا تتحرك و كأنّها دُقّت بالمسامير، و لا تصوّر القاعة و جمهورها كما لاحظ أكثر من ملاحظ … هل هي صدفة و هل لهذا علاقة بمناداة هذا الجمهور بحلّ البرلمان؟ لا أعرف … و هل من الصدفة أيضا أن ينقطع البث عن خطاب رئيس دولة تحاربه جماعة مّا؟ و هل فعلوها سابقا مع المرزوقي و الباجي حتى لا أقول مع رئيسيْ ما قبل 2011؟ هل من الصدفة أن ينقطع البث عن الرجل و هو في قمة هجومه على محتجّي يوم السبت؟
التعاليق التي وردت من البارحة إلى اليوم كانت تتوقف عند وصف “مهزلة” و “فضيحة” و تضع ذلك على حساب سوء الإعداد و سوء التنظيم و تحمّل المسؤولية حسب أهوائها لفريق القصر … هذا قرأناه و شبعنا منه … و لكن ألم هناك شبه بين قطع البث البارحة عن الرئيس، و بين ما اعتدناه من قطع للميكروفون في برلماننا عن نائب لا يعجب؟ … ألا يمكن أن تكون نفس الجهات التي كانت تخنق الأصوات في البرلمان، هي نفسها التي تلاعبت أمس بخطاب الرئيس و فعلت ما فعلت لكي لا يصل؟ … و هي نفسها التي مارست ذلك سابقا في الجامعة و في الاجتماعات العامة و حتى في صنصرة ما يذاع على التلفزات … يفعل ذلك التقنيون كما يفعله مديرو الحوارات و مقدمو البرامج مع ضيوفهم …
ما حدث البارحة خطير خطورة أمن البلاد … فيه عبث بصورة مؤسسة الرئاسة، و فيه موقف منحاز لأحد فرقاء الصراع الدائر هذه الأيام، و فيه إشعار للكلّ بأن طرفا معيّنا يده طويلة و قدرته على الإزعاج لا حدود لها … و فيه تنبيه لرئيس الدولة بأنهم هذه المرة قطعوا عنه الصوت، و بإمكانهم أن يفعلوا معه أكثر من ذلك لو شاؤوا … أحدهم قال ذات مرة “في أيدينا وزارات التربية و الصحة و التعليم العالي” … و أنا أضيف إليه “في أيديكم أيضا التلفزة الوطنية و وزارة التكنولوجيا التي تتشبثون بها منذ عشر سنوات و تعضّون بالنواجذ” … مع العلم بأن ديوان الإرسال التلفزي تابع لهذه الوزارة، و مسؤولية البث و قطع البث (كما حصل البارحة) تعود إليه دون مِراء …
عسى أن تكون هذه الحادثة دليلا على أن التغلغل في مفاصل الدولة ليس لعب أطفال أو إشاعة … و قد يكون ذلك من أسباب عدم إقدام الرئاسة على أي فعل منذ شهرين … أقول قد يكون … فهل بهذه المؤسسات المخترقة بالكامل، يمكن لأي كان أن يغيّر أو ينجز أو ينفّذ؟