أَبْرُكْ على الجرْحِ واشْرَبْ أيُّها الجملُ لقدْ عطشتَ طويلاً أيُّها الجملُ لقدْ مشيْتَ طويلاً أيُّها الجملُ لقدْ صَبَرْتَ طويلاً أيُّها الجملُ فَهَوْدَجٌ أنت للسُّلطانِ مُرتحِلُ وأنتَ قربانُ من حطُّوا ومن رحلوا لا شارِعٌ لكَ فيهِ شُبّاكٌ ولا وطنُ لكَ فيه لاَ بطلُ ولاَ وثَنُ
من قصيدة “سفر سفر” للشاعر الفلسطيني معين بسيسو
25 جويلية 2021، لحظة فارقة في تاريخ تونس حلّله المحلّلون وأوّله المؤوّلون وأفتى بشأنه الدستوريون والحقوقيون وفتّق السياسيّون حوله قريحتهم حتى أضحى نكسة خطيرة في مسار الانتقال والارتحال اللامتناهي في الصحاري والأدغال… أما أنا فيعنيني خاصة ما لم يُقل تماما وبعض الرمزيات الحافّة التي رافقت هذا الحدث وما بعدهُ.
25 جويلية (وبصرف النظر عن مآلاته التي لن تكون في كل الأحوال أكثر إيلاما للتونسيين مما عانوه خلال العشرية الزرقاء الماضية)، هو برأيي ثأر شجاع لاغتيال المناضل الوطني الشّهم محمد البراهمي عضو المجلس الوطني التأسيسي ذات 25 جويلية 2013 ومُعاقبة عادلة في حقّ كل القوى التي حرّضت عليه وكفّرته ولم تغفر له إسهامه بقوة في تشكيل متراس سياسي صلب كان له الأثر الكبير في توجيه الأحداث في تونس. (وحتى لا ننسى، تذكّروا جيدا أن الشهيد شكري بلعيد أطاح بحكومة الجبالي والشهيد محمد البراهمي بحكومة علي العريّض).
25 جويلية الذي لم يحتفِ به “كلنا قيس سعيّد” فحسب، بل تلقّفته شرائح واسعة جدا من التونسيين الذين ضاقوا ذرعا بعواء البرلمان وثغاء المنابر الاعلامية وفحيح الأفاعي ونعيق البوم وصياح الديكة المبتلّ ريشها. تنفّس التونسيون ملء صدورهم لأنّ المطبّ الذي أقحمتنا في أتونه الأحزاب الحاكمة بقيادة حركة النهضة بحِنكة ودَهاء نادريْن لا يُرى له مَخرج … ولأن جرائمهم مطرّزة بإتقان وقضاؤهم مضمون بإطلاق وحكوماتهم قُدّتْ دوْما على المقاس وتعييناتهم مُفخّخة في كل موقع حسّاسْ … وبرهنوا أنهم رسبوا بالسنة أولى ديمقراطية كما قال شيخهم يوما بمعدل هزيل جدا لكنهم أبوا مغادرة مقاعد الحكم ورفض أولياؤهم تسجيلهم لمتابعة دورات تكوين مهاري في مسالك أخرى أكثر نفعا.
25 جويلية جعل الناس يستعيدون ثقتهم في أنفسهم وفي بلدهم وفي مستقبل لهم ولأبنائهم يكون أكثر إشراقا وأقل قتامة بما عزّز مناعتهم (بالمعنى الطبّي الصّرف) وأقدَرَهُم على مواجهة فيروس الكورونا بمعنويات عالية وتحدّ واضح خاصة بعد توفّر اللقاحات بكميات كبيرة وبعد اختفاء وجوه الشؤم التي لا تحدّثنا كل ليلة إلا عن الأوضاع الكارثية داخل المستشفيات وانهيار المنظومة الصحية بالكامل … ولتأكيد هذا، استمعت ليلة البارحة لأخبار مؤكدة عن غلق قسم الكوفيد بأحد المستشفيات الكبرى نتيجة غياب أية حالات إضافية من المُصابين.
25 جويلية أنقذ رئيس الجمهورية من نفسه ومن التداعيات السلبية على المستوى الاتصالي العام لخطاب الوعيد والتحذير والتهديد بفضح الفاسدين والمارقين عن القانون والمتلاعبين بأمن البلاد ولُقمة التونسيين، خطاب طال أمده واستغرق وقتا طويلا دون أن يرى الناس نتائج إيجابية ملموسة على الأرض…حتى خِلنا للحظة أنها مجرد عنتريات ومنصات رِماح “كأنها أشطان بئر في لبان الأدهم“… وتذكّر بعضنا المقولة الفرنسية الرائجة والتي تُفيد أنّ “من يستطيع الأكثر يستطيع الأقل” أي أن من يُقدم على تحويل وكْر “السلطة الأصلية” إلى خرابة منسيّة غير مأسوف على غلقها بالشمع الأحمر حتى إشعار آخر …وذلك في قلوب أغلب التونسيين كما تؤكّد ذلك أرقام مكاتب الإحصاء والاستطلاع.
25 جويلية أطاح بترسانة ضخمة من الأكاذيب الوطنية الكبرى والتي مفادُها أن مجرد إحراج النهضة وحشرها في الزّاوية هو دفع للاقتتال والحرب الأهلية (تهديد مبطن يلازم كل تدخلات كبار المسؤولين في هذه الحركة غير المتحركة) وأن أنصارها يُعدّون بمئات الآلاف لم يحضر منهم سوى بعض العشرات فجر 26 جويلية في محاولة يائسة لاقتحام البرلمان والاعتصام داخله ومعاودة موقعة رابعة المصرية، وأن الله لا يقف يوم الانتخابات إلا إلى جانب الأحزاب المُلتحفة بالدين وقوة الإنفاق، وأن مقراتهم خط أحمر باعتبارها أشبه ما يكون بالمساجد المقدّسة لا يطالها دنس الحرق والتخريب، وأن “الأخلاق ستهوي دُفعة واحدة” كما قال لي أحدهم ليلة الحدث الجلل (سترى كيف سيتفشّى الفساد الأخلاقي في البلاد ويعمّ العراء ومظاهر البغاء جميع المحطات التلفزية !!!)
25 جويلية أعاد للأذهان مظاهرات 30 جويلية 2013 العارمة التي أطاحت بحكم محمد مرسي وحرق مكاتب جماعة الاخوان المسلمين في المقطم بالقاهرة وكذلك ثورة 25 جانفي 2011 التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك على وقع شعار :
مش هنخاف مش هنطاطي …احنا كرهنا الصوت الواطي
شعب تونس يا حبيب …شمس الثورة مش هتغيب
ونذكر أن نفس الشعارات التي استحضرها الجزء المؤيد للاخوان في مصر من “نبذ العنف” و” الدفاع عن الشرعية” و”التحذير من الانقلاب على نتائج الصندوق” هي نفسها التي أصبح يردّدها أنصار الجماعة المُطاح بها في ربوعنا.
25 جويلية أراح التونسيين من وجوه خشبية حالكة وأصوات مقرفة ونبرات مهدِّدة وتقارير منبئة بالإفلاس والانهيار ونشرات إخبارية تُفتتح بالعويل والصراخ تحت قبة “بار الالمان” وتُتوّج بأنباء باهتة عن حجز كميات من السلع المهرّبة على متن عدد 2 من الشاحنات كبيرة الحجم.
25 جويلية أفرز ” سلطة مرجعا” (بعد التعويم الممنهج للسلطات وظاهرة الرئاسات المثلثة والمربّعة طيلة 10 سنوات …) من الممكن أن يتظلم لديها الناس ومن الممكن أيضا أن يهابها المتجبّرون والراكبون رؤوسهم الصدئة ورافعي شعار “أشرب والا طيّر قرنك” و “محسوب أشكون باش يسمعك برة أنبح للصباح” و “يا أخي نحن أبناء الشرعية المنبثقة من الصناديق” …
وختاما أقول إن 25جويلية استجاب لما يكرهه التونسيون وفقع دُمّلا أنهك جسد الدولة ودمّر نفسيّة عامة الناس ولكنه لم يتضح بعدُ ما إذا كان سيضع حجر الأساس لبناء تونس الجديدة، تونس الوارفة، تونس المُقمرة، تونس المؤنسة، تونس التي تنام ملء جفنيها في انتظار غد آمن ومشرق.