انقسم التونسيون مساء أمس كما تعوّد التونسيون أن ينقسموا … و خاصة منذ السنة السنواء 2011 … انقسمنا و انفصلنا و انسلخنا و انشطرنا مرة أخرى، و كأنه أصبح واردا أن تصبح بلادنا يوما يمنا جنوبيا و يمنا شماليا، أو ألمانيا غربية و ألمانيا شرقية … مع فوارق أكبر بلا حصر، و لكن أقلّها أن البلد الشقيق و البلد الصديق كلاهما عاد واحدا متحدا … و منذ ثلاثين سنة !
إذن انقسم التونسيون ليلة البارحة و سبب انقسامهم هذه المرة كان ـ يا للغرابة ـ الفرح … نعم، الفرح و لكن في اتجاهين متعاكسين … فريق “أ” طائر من الفرحة لأنه أخيرا شهد ولادة دستور جديد على أنقاض دستور 14 و ما سبقه و لحقه من جدل عنيف و وجوه لم تحظ دوما بالرضى … و فريق “ب” يرقص سعادة بسبب نسبة المشاركة في الاستفتاء التييراها ضعيفة بما أنها لم تتجاوز 27 و نصفا بالمائة … و مبعث سعادته أنه يرفض هذا الاستفتاء وفعل كل ما في وسعه لحمل الناس على مقاطعته …
و أنا و إن كنت غير مجبر على الوقوف مع أحد الصفّين، و إن فعلت ذلك لن يمنعني أحد و لكني لست مجبرا هنا أيضا على أن أفصح عن مشاركتي أو عن توجهها بين (النعم) و (اللا) لو كنت شاركت … قلت رغم ذلك فإنني من الرافضين لمبدإ المقاطعة من أساسه … أرفض المقاطعة ماضيا و حاضرا لأنها في نظري هروب و إخفاء للرأس تحت الرمال كما تفعل النعامة … ثم هي بالنسبة إلى التونسيين و عاداتهم العريقة استرسال في التواكل و الكسل و الاستقالة من الشأن العام … التونسي طول عمره منفصل عن مصير البلاد و مأل المرفق العام و لم يخرج بعد من دائرة الأنا و العائلة والقبيلة … و هو يرى أن “الدولة” كائن فضائي مستقل عنه أو منزّل عليه أو جالس في المقعد المقابل من الطاولة … و عبثا تخرّف له بأن الدولة أشخاص هم منه (أو المفترض كذلك) و أن أموالها هي من جيبه وليست من تركات أمّ الدولة أو خالها أو عمّها المتوفّى في أستراليا …
كنت دائما أنصعق من مواقف معارضينا أو بعضهم، كلما حلّ موعد انتخابي ما … و هذه المواقف هي في الحقيقة موقف واحد لا يتغيّر: نقاطع الانتخابات و نبقى في بيوت نومنا أو في منافينا الذهبية و نكتفي ببيان ورقي نسبّ فيه النظام من يوم وُلِد و تنتهي القصة فماذا يقع؟ … تتم الانتخابات في موعدها رغم حملة الكراسي الفارغة، و يفوز الحزب الحاكم بلا قلق منذ الدور الأوّل، و تستمرّ الحياة رتيبة طوال 55 سنة … المرّتان الوحيدتان اللتان كانتا استثناء هما انتخابات 1981 و 1989 حيث تشجّعت المعارضة و خاضت السباق (اللامتكافئ لا بد أن نعترف) و خسرت كما كان منتظرا و لكن … و لكنها أحدثت زلزالا في أركان السلطة و رجّة وعي في أذهان الناس … لقد عرف بنو شعبك أنك موجود، و هبّت منهم أعداد مهمّة لتقول لا لخصمك القوي المهيمن … و كان ممكنا لو تكررت المحاولات بمثابرة و عناد، أن يسقط النظام بصندوق الاقتراع كما سقطت أنظمة أخرى لا تقل قوة و سيطرة و تشبثا بأريكة الحكم …
لكن معارضة “الغوفريت” ظلّت تأبى هذا و تتقاعس و تفوّت الفرص على شعبنا في مزيد الوعي و الصمود والتعلّم الديمقراطي … و تتذرع تلك المعارضة مرة بالتزوير و مرة بالمضايقات و مرة بقانون الانتخابات و مرة بعدم شرعية النظام القائم و لاوطنيته و لاديمقراطيته إلخ … ناسين أن لا أحد يقدم هدايا، و أنه طبيعي جدا أن تحصّن كل سلطة نفسها و تسعى للبقاء إلى الأبد … و قد رأينا أنه حتى في أمريكا لم يقبل ترامب بالخروج من البيت الأبيض و استعمل دون ذلك ميليشيات و أعمال عنف … كما أن سلفه “بوش” الأصغر فاز بفضل تزوير في ولاية يشرف عليها أخوه الشقيق … غير أن الفوارق يصنعها الصامدون و الصادقون و المصرّون، وهذا للآسف ما لم يتوفر في كافة معارضينا طوال تاريخهم … و أنّى لهم ذلك و هم وضعوا أنفسهم في موضع خدم السفارات و الشهوات …
يكفي ما أطلنا … و نختصر أخيرا بأن المشاركة لا تعني الموافقة، شارك بكثافة و قل “لا” بكثافة و حارب بعد ذلك ضد التزوير و افضحه إن كان موجودا، و الشعوب ليست غبية … و إلى اليوم مازال التونسيون موقنين بأن حركة الديمقراطيين الاشتراكيين هي التي فازت في انتخابات 81 … و هم موقنون أيضا، بأنه لو كان أحمد المستيري معارضا جديا (على طريقة “عبدولاي واد” في السينغال قبل أن ينحرف) و لو لم يكن ابن النظام البار … لتغيّر وضعنا السياسي منذ عقود، و لما كانت هذه المستنقعات المتلاحقة التي وحلنا فيها إلى اليوم …