جور نار

في وداع الأستــاذ حسين الختّالي …

نشرت

في

أيها الراحل العزيز…

كيف لي تأبينك أيها الصديق والرفيق والأستاذ…ألا تعلم أن أصعب الخطب هي خطب التأبين والرثاء، رغم ان اروع خطب التاريخ، هي الخطب التي وُلدت في لحظات حزينة…فكيف لي اليوم تأبينك دون حزن يخيّم على الكلمات…

<strong>محمد الأطرش<strong>

يصعب عليَ اليوم اختزالُ الفقيد حسين الختّالي في بضع كلمات وأسطر…كما يصعب على أي منكم اكتشاف إرث الفقيد ومراحل كفاحه خدمة للبحث والتعليم العالي الفلاحي في تونسنا بالأمس واليوم وغدا عبر الأجيال التي تكوّنت على يديه… من الصعب أن نختزل عمره المديد وجهده الكبير ومآثره الجمّة، في كلمة، مهما طالت تبقى مخلّة في حقّه، مقصّرة في سرد ما أتاه وما أنجزه…وما أورثه للعديد من الأجيال.

أشهد أنه كان وطنيا في مقام العشق للوطن …رأيناه تلميذا في مدرسة جرجيس الابتدائية…وتابعناه وهو تلميذ في المعهد الفني بمدنين…ورافقناه وهو طالب بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس…وخَبِرنا تَميُّزه في جامعة باريس الأولى “بانثيون” السوربون…ووقفنا إجلالا لنجاحه في كلية العلوم الزراعية والبيولوجيا التطبيقية بجامعة جنت ببلجيكا…

كان الفقيد رحمه الله متواضعا جدا، محبا للعلم ولمن يطلب العلم… لم يبخل يوما بعلمه على أحد حين جاء المعهد باحثا سنة 1979…ولم يبخل على طلبته حين أصبح أستاذا مساعدا بنفس المعهد ثم أستاذا محاضرا وأستاذا بنفس المعهد… وأكاد أجزم أني غير قادر علي إحصاء خصاله حين اصبح عضوا بعديد لجان الانتداب الخاصة بالتعليم العالي الفلاحي… فقد كان بسيطاً في مسلكه…صلباً في مواقفه…شديد الاعتزاز برأيه متواضعاً امام رأي الآخرين…نزيها في حكمه على جميع المترشحين…وأنا على يقين أنه كان أستاذا من طينة الكبار حين أصبح مدرسا بالمعهد الوطني للعلوم الفلاحية بتونس…وبكلية العلوم بصفاقس…وبغيرهما من المؤسسات الجامعية…في تونس وخارجها…

إنني إذ أقف اليوم بين أيديكم، ينتابني شعور مزدوج ما بين العرفان والتقدير لاسم المرحوم واسهاماته العظيمة، وما بين الحزن والأسى على رحيله كأي فارس نبيل يغادر قومه…فارس نال وسام الاستحقاق الوطني لقطاع التربية والعلوم سنة 1999…كيف لا وهو الذي كان شفّافا في إدارته لكلّ المسؤوليات التي ارتبطت بعهده… فلم يجْرِ وراء مكاسب ومغانم زائلة حين أشرف على إدارة معهد المناطق القاحلة سنة 1996…ولم يُرَاكم ثروة مادية بل بحث عن مغانم علمية ومكاسب تنموية لوطنه وهو يشرف على اللجنة الوطنية لمقاومة التصحّر…فكان قاسيا على نفسه وعلى جسده وعائلته حين تولى أيضا إدارة القطب التكنولوجي بالجنوب… لقد كان جمعا في فرد وأيقونة متميّزة حين ناضل من أجل بعث نواة جامعية وأخرى تنموية بالجهة….لقد كان كذلك أيضا حين رفض العديد من المسؤوليات السامية مخيّرا البقاء مناضلا بين طلبته وكثبان الرمال يزرع العلم والمعرفة بين هؤلاء، ويقف بتجاربه سدّا منيعا ضدّ تقدّم هؤلاء…وقد شرّف أهله ووطنه من خلال عمله كمستشار لمنظمة الأغذية والزراعة وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي لإنشاء برنامج وطني لتثبيت الكثبان الرملية في موريتانيا…وغيرها من البرامج الإنمائية بمورتانيا وبالعديد من الدول الصديقة والشقيقة… وقـد كان المرحوم رمزا من رموز العطاء والتطوع وخدمة الآخرين حين عمل مستشارا بأكثر من منظمة وطنية وعالمية وإقليمية فكان شرّفا لأهله ووطنه وجميع من عرفوه وعاشروه ورافقوه في رحلة العلم والمعرفة…

إن الأستاذ حسين الختّالي كان صادقا في قوله، مخلصا في عمله، يصل الليل بالنهار ليضطلع بالأمانة التي حُمّل بها حتّى أرهق جسده… فلم يشتك يوما ولم يكشف يوما معاناته…كان يتميّز بسرعة تحويل العلاقات المهنية الى علاقات إنسانية… أخوية… بفقده فقدنا أخا وصديقا وفيا مخلصا… وفقدت تونس باحثا واستاذا ناضل طويلا من أجل الراية الوطنية…كان فارسا عظيما من فرسان البحث والتعليم العالي الفلاحي…كان متواضعا جدا محبا للعلم… لم يبخل يوما بعلمه على أحد…أنعم الله عليه بعقل متفتح وتفكير حر ومستنير، لديه بعد نظر ومدرك للواقع الذي تعيشه جهته….وبلاده…فبقي مخلصا لهذه الأرض رافضا كل ابتعاد عنها…

لا أظنّ أن ما أتيت عليه من كلمات سيكون كافيا لرسم ملامح شخصية الفقيد…كما أني أجزم أنها لن تكفي لتبرير مكانته في قلوب أصدقائه وزملائه فالفقيد رحمه الله استمد مكانته الفريدة بين كل هذا الجمع والجمع الذي غاب عن هذا الجمع من جوانب إنسانية بحتة تنبعث من المنبت… والقيم… والأصل… والخصال…والمواقف…

ما أصعب اليوم أن أستعرض معكم وبينكم مآثر وخصال رجل عرفناه متواضعا…وديعا…ناكرا للذات… اليوم لن نقول لفقيد البحث والتعليم العالي الفلاحي…فقيد الوطن…وداعا أيها الأستاذ…والصديق والأخ الأكبر كما يحلو له أن يطلبها من بعضنا…اليوم سنقول له… إن أثركم الطيب باق… إن أثركم الطيب باق، إن أثركم الطيب باق…ما بقيت هذه الأرض…وتذكروا إخوتي… أن الناس لا تدفن في التراب غير أثمن الأشياء… فيا أبناء وبنات وطلبة ورفاق وزملاء الفقيد تمسكوا بإرثه…وإرثه في طيب أثره…علمه وخصاله وقيمه…وأسسوا لثقافة الوفاء فالميت حي لديك إذا ذكرته.. والحى ميت لديك إذا نسيته…واللهم ارحم فقيدنا …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version