كثرة القنوات التلفزيونية في بلادنا توحي و كأننا قدتخلصنا من الصوت الواحد و الذوق الواحد و المشروع الواحد …. هكذا يبدو المشهد العام أو هذا ما يتراءى لمن لم يدقق مليا في ما تبثه هده القنوات من منتوج لعموم المتلقين من الناس . لكن يهمني قبل كل شيء أن أشير إلى أن تناولي للموضوع لن يكون أخلاقويا لأنني أنزه نفسي من الظهور بمظهر الواعظ المرشد المؤدب .
قنوات في وضع ما يشبه الانتصاب الفوضوي من حيث وضعها القانوني و هذا يشكل لوحده مبعثا على الحيرة لأن المنفلت في الجوهر لن يكون مستعدا للانضباط في التفاصيل … قنوات بلا رؤية أو هكذا تبدو و هذا ما تؤكده المضامين المعروضة على المشاهدين حيث لا يستطيعون التمييز بين السياسي و الاقتصادي و الثقافي والترفيهي … تجد طبخة واحدة فيها كل شيء و كل حاضريقول ما يشاء. أما حين نتوقف للتأمل في مضامين ما تقترحه هذه الطبخات فحدث و لاحرج … فما دأب عليه ما يسمى بالمنتجين أنهم يطرحون مسائل يسهل فيها اللغو و تفتح فيها أبواب القضايا المفتعلة و التافهة وفق سيناريو معد مسبقا على أن يقتصر دور الكرونيكورات و الضيوف على الاحتيال على المشاهدين عبر استغلال فضولهم أبشع استغلال.
اما في البرامج الموصوفة زيفا بالاجتماعية فهي تعتمد عادة على استدراج البسطاء لإخراج ما في دواخلهم من هموم و استفزازهم حتى ينطقوا بالكلام الشاذ إرضاء للمنتج و لتحقيق رغبة الفضوليين في الاطلاع على مساوئ الناس وعيوبهم … و إذا خرجت كاميرات هذه القنوات إلى الشارع فهي تعمل بنفس الأسلوب الابتزازي حيث تراها تبحث عن الحالات الأكثر بؤسا ثم النزوع إلى التباكي و إقامة المرثيات و التأوّه من غياب الدولة و المسؤولين … بل هناك من ينزل إلى الشارع للبحث عن الضحايا من البسطاء لدفعهم إلى إبداء آراء مثيرة للسخرية ثم يقدمونها للناس وهم في غاية السرور بما فعلوا !
من ميزات هذه القنوات أنها لا تسمح لك إلا بمشاهدة نفس الوجوه على مدار الساعة، فتجد منشط المنوعات محاورا في برنامج آخر و كاتب سيناريو و ممثلا و شاعرا و لِمَ لا ضيفا على أحد شركائه في الوليمة لتصفية الحساب مع خصومه و لذرف دموع التماسيح في مشاهد مسرحية سمجة و رخيصة … كما يجوز أن تصادفك لمة ميوعة في أية ساعة من ساعات النهار، فتشاهد بأم عينك واحدة توزع كمونها على الناس بسخاء متباهية بتعاطيها لأرقى أنواع العطور و إقدامها على إحداث روتوشات على وجهها و باقي جسدها متبجحة بأنها تنفق بسخاء و دون حساب بفضل ما تكسبه من عرق جبينها …
فأية رسائل يقدمها هدا النوع من المرضى للكادحين و للمراهقين و للطامحين في أن يكونوا غدا منتجين و فاعلين و مفيدين لبلدهم؟ أية رسالة يقدمون للمربين الذين سخّروا كل مهجتهم و شقاءهم اليوم لنحت شخصية جيل المعارف والعلوم و السلوك السوي عدا هدم هدا المشروع و استبداله بمشروع الميوعة و التحريض المقنّع على تعاطي الموبقات بشتى صنوفها؟ هذه القنوات لا تتردد يا سادة في إبراز أصحاب السوابق العدلية في ثوب الابطال بل من نجومها أيضا من أقام في السجون بتهم الرشوة و فيهم من غادرها بعفو رئاسي و فيهم و فيهم …
و من الرسائل المعبرة التي ما أنفك أستحضرها للتدليل على فداحة ما يقدمون للناس، يجسمها موقف في برنامج دليلك ملك …موقف شاب عرض عليه البنك مبلغ ثلاثين مليونا فردّ في استهزاء صارخ: 30 مليونا حكاية فارغة ! … إي نعم … تمرر هذه الرسائل لأب لم يجد قوتا لأولاده و لطالب عاجز عن توفير ثمن التنقل و لمريض لا يقدر على العلاج بسبب الفقر و العوز و الفاقة.