جور نار

كان يا ما كان…التعاضدية ااا (13)

نشرت

في

أفسد آفاتنا صارت الإيديولوجيا … فهي تعمي الدليل و تدنّس النوايا و تشرّع الكذب و تفقد الكلمات معانيها و الأصحاب أصحابهم … أن تكون مع العدل لا يعني بالضرورة أن تكون من شيعة علي أو من سُنّة عمر … و أن تكون نصيرا للحرية ليس برهانا على أنك من أتباع الليبرالية المتوحشة … و أن تكون ضد الاستغلال لا يبرر اتهامك بالماركسية من لدن كارهي ماركس دون أن يقرؤوا له شيئا …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

هذا تقريبا ما قاله لنا الراحل أحمد بن صالح في لمّة صحفية … السؤال كان طبعا فيه ثلاثة أفرع: تجربة التعاضد كانت استنساخا شيوعيا من “كولخوز” الاتحاد السوفياتي … وقت التعاضد أهين الناس و ضُرِبوا وعاشوا عشرية ضنك … إذا لم يفشل التعاضد لهذين السببين، فلماذا فشل إذن؟ … مع العلم بأن المقابلة المذكورة تمّت في ماي 1988، وفي مكان بعيد جدا عن تونس (حيث يقال إن الرئيس الجديد وقتها ـ بن علي ـ راح يفتح ملفات العهد الذي سبقه و”يصفّي حسابه” مع بورقيبة ونويرة و الصيّاح إلخ) وحضره إلى جانب الإعلاميين ساسة من تيارات مختلفة فيهم من هو من ملازمي أحمد المستيري … و من يذكر التعاضد يذكر أيضا أن مؤسس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، كان عليه رحمة الله من أشرس محبطي التجربة …

بن صالح بدأ حديثه بإشعارنا أنه لم يكن يوما شيوعيا، و بالتالي فإن فكرة التعاضد كانت بعيدة عن روسيا وسياساتها في الفترة 1922ـ1991 (من لينين إلى غورباتشوف مرورا بالترويكا التالية لوفاة ستالين) … بعيدة فكريا و مرجعيا، أما في الجغرافيا فهي أقرب من ذلك … أولا، فكرة تجميع وسائل الإنتاج و الترويج وتوزيع الأرباح طرحها اتحاد الشغل منذ وسط الخمسينات … و ثانيا، كان الاستلهام من البلدان الاسكندينافية ـ الرأسمالية ـ و فيها ما كانت ظروفه متشابهة مع تونس من حيث صغر المساحة و قلة عدد السكان والخروج الطازج من محنة جُلى … الدانمارك خارجة لتوّها من دمار حرب عالمية، ونحن من ويلات استعمار مباشر … وللّذين قد يتعجبون من هكذا مقارنة، تجدر الإشارة إلى أن بلدان الشمال الأوروبي منذ ستين سنة لم تكن حالها بهذا الرفاه الذي نراه اليوم …

ربما لأنها نجحت حيث فشلنا …

يضيف محدثنا … لقد بقيت الفكرة مطروحة للأخذ و الردّ مدة تسع سنوات بكاملها … ولم يظهر أحد من المعترضين وقتها، بالعكس، فقد كانوا أشدّ المتحمسين لها خاصة حين دفع في اتجاهها صندوق النقد الدولي و عمّمها على أغلب البلدان حديثة الاستقلال، و معه الأمم المتحدة و منظماتها … ووقع الختم على المشروع في مؤتمر الحزب الحاكم ببنزرت 1964، بعد أن حظي بإجماع المؤتمرين الذين صفقوا طويلا لسياسة الزعيم الجديدة و التي أطلق عليها اسم “الاشتراكية الدستورية” …

عن العامل المُهان ذكر لنا بن صالح مشهدا طريفا قال إنه رآه في اجتماع عام بباجة برئاسة بورقيبة … كان الزعيم يخطب عن الفقر و القمل و “السْخَطْ” الذي ينتشر في تلك الجهة و سيصبح رخاء بعد زيارته تلك … غير أنه و هو يجيل النظر في جمهرة الحاضرين، لم يشاهد إلا صفوفا من العمّال نظاف الأبدان لائقي الهندام بوجوه نضرة و رؤوس حاسرة و شعر ممشوط و عيون تبتسم بثقة دون تذلل أو استعطاف العادة … كما لاحظ باستغراب أنه عند فواصله الخطابية المعروفة، لا تهبّ لأجله عاصفة تصفيق و هتاف محموم، بل يجد استحسانا مهذّبا لا أكثر و لا أقلّ … وزاد على الطين بلة بأن رأى عند جولته بشوارع المدينة أسواقا منظمة في شكل مغازات (تعاضديات الاستهلاك) ومواطنين محترمين يقضون حاجاتهم، و بعضهم (فقط !) كان يتابع الموكب الرئاسي بنفس تحفّظ عمال القاعة …

جُنّ جنون الرجل بدل أن يفرح لتحصيل التونسيين الكرامة بعد الاستقلال … و اهتبلت الحاشية الفرصة لتهمس في أذن الرئيس: هذه “جراير” التعاضد و بن صالح على هيبتك ومقامك، سيدي المجاهد الأكبر ومحرر الأمّة الأوحد …

نفس الكلام سمعناه من إبراهيم حيدر ـ رفيق بن صالح في السلطة و المنفى ـ في مسكنه بضاحية رادس، وقد نشرت شهادته تلك أكثر من جريدة، و أيضا من الصديق الراحل حمادي الشريف الذي تعرّفنا عليه أثناء اشتغاله واشتغالنا مديرين لبعض المستشفيات… كما تم استعراض أمثلة أخرى شبيهة في محاكمة 1977، جاءت على ألسنة “المتهمين” و منهم الشريف و حيدر و محمد بالحاج عمر و صديقي النائب خالد بن منصور، ووجدت مرافعة بليغة للمحامي ـ وقتها ـ الباجي قائد السبسي، و الحق يقال … إلا أن هذه الوثائق التاريخية بقيت حبيسة الرفوف، حتى جاءت مؤسسة التميمي منذ سنين قليلة لتنضو عنها أخيرا الغبار …

لا يا سيّدي … لم تكن تجربة التعاضد بذلك السواد الذي صوّره النظام حين تراجع عنها أو جاءته أوامر بالتراجع عنها، خاصة مع إمضائه أول اتفاقية “أليكا” مع السوق الأوربية المشتركة (أمّ الاتحاد الأوروبي) سنة 1969 … وهي اتفاقية للتخلي عن الإنتاج الوطني لصالح استهلاك السلع المستوردة من أوروبا (فرنسا أساسا) وتحويل تونس إلى مجرد سوق ملهوفة و جسد بيدين ذليلتين: واحدة سفلى مقترضة، و ثانية عاملة بأجر زهيد لدى مستثمر أجنبي له أرغد التسهيلات …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version