تمرّ البلاد بأسوأ مرحلة في تاريخها…ولا حياة لمن تنادي…وكأني بهذا الشعب انقسم إلى قسمين…قسم داعم يمدح مولاه ليلا نهارا ويوهم نفسه بأن السماء زرقاء، وبعض الحمامات تزقزق، وبعضها الآخر ” يزقّ ” على المارّة بين أشجار شارع الزعيم الخالد بورقيبة ليقول بعضهم “هذا فال حسن” فحتى “زقّ” الحمام أصبح فالا حسنا في زمن تعاني فيه البلاد من تمزّق على مستوى الأربطة الصليبية …ويعدّد “الإنجازات” الوهمية التي لا أحد يراها…وقسم آخر مخدّر…”مزطول” اختار الصمت والبكاء والبقاء على الأطلال…وهذا أمر يخيفني شخصيا…فماذا يقع لهذا الشعب حقّا؟ هل قبل الجميع بالأمر الواقع وأعلنوا البيعة لمولاهم أمير المؤمنين خلسة كما يقع كل شيء في هذه البلاد…أم هو الصمت الذي يسبق العاصفة؟
شبابنا ووقود حياة هذه البلاد بين “حارق” بآلاف الدنانير…باعت عائلته من أجله منزلها وسيارتها حتى تضمن له خروجا آمنا من وطن أصبح مجهول الهويّة…و”حارق” بحرا سيكون محظوظا لو وصل سواحل إيطاليا… تونس اليوم تعيش أكبر موجة “حرقة” أو هروب من “الجحيم” عرفتهما على مرّ التاريخ، فالبلاد بما تعيشه أصبحت فعلا جحيما لا يطاق، فلا شيء تحقّق منذ سنة 2011 فحتى بعض الحريات التي افتكها الشعب بدأت تتآكل وتنحسر تحت مفعول ضربات أتباع مولاهم ورابطات “الشعب الذي لا يريد ما الشعب يريد”…هذه الموجة لم نشهدها حتى في آخر عهد الرئيس بن علي رحمه الله…فهل اختار الشعب ترك الوطن بحثا عن وطن أجمل على أن يخرج كما فعل آخر سنة 2010 ولسان حالهم يقول “أقعدوا فيها وحدكم” ويقصد بهم أنصار مولاهم طبعا؟ وهل أصاب اليأس هذا الشعب فتعب وملّ من الخروج مطالبا بحقوقه ومطالبا برحيل حكامه الذين خذلوه؟
فمنذ خروج بن علي إلى رفقة الصحابة حيث دفن وهم يخدعون الشعب…فلا هم كانوا في مستوى وعودهم…ولا هم دافعوا عن الشعب بشراسة…جميعهم كذبوا وخدعوا الشعب…جميعهم أوهموا الشعب بأن هدفهم الوحيد خدمته وخدمة الوطن من أجل ضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة لكنهم لم يفعلوا شيئا…جميعهم علّقوا فشلهم على شماعة الماضي…جميعهم لعنوا الماضي فلعنهم حاضرهم…ولا أحد منهم خرج ليقول نعم فشلت واعتذر من الشعب…نعم جميعهم حتى ساكن قرطاج الحالي…أحاط نفسه بمن بايعوه وخدعوه وأوهموه أنه الصادق الأمين وأنه الفاروق…وأنه على حقّ في كل ما يفعل…فصدّقهم ونسي من صادقوه…ومن لخير البلاد نصحوه…
ماذا تعني هذه الموجة الرهيبة من “الحرقة” الشرعية عبر مسالك بآلاف الكيلومترات؟ هل هي عملية إفراغ لكل الطبقة القادرة على العمل ولم يقع تشغيلها أم هو إفراغ للبلاد ممن يشكلون خطرا على الحكام لو خرجوا عليهم مطالين برحيلهم بعد فشلهم في إصلاح حال البلاد والعباد أم هي ثلاثة في واحد… أولها التخلص من عشرات الآلاف من العاطلين وتسجيل ذلك انخفاضا في نسبة العاطلين كما قالها وزير التشغيل المكلف بغير الشغيل، وثانيها التخلّص من عشرات الآلاف من المشاغبين القادرين على الخروج في حراك جماهيري شعبي يربك حكام اليوم، وثالثها كسب ما سيرسله هؤلاء من عملة صعبة في قادم السنوات لعائلاتهم؟
موجة الهروب من جحيم البلاد تشبه موجات الهروب من بؤر التوتّر والحروب، والحال أننا لا نعيش حربا في هذه البلاد…فما الذي يحدث فعلا لهذا الشعب ولم كل هذه الاستكانة والسكوت عن وضع أصبح لا يطاق؟ كيف سيكون حال البلاد غدا لو أفرغت تماما من طبقتها الكادحة وتمّت إحالة نسبة كبيرة من الشغالين على التقاعد ببلوغهم السن القانونية؟ هل ستضطرّ البلاد إلى استيراد اليد العاملة وشعبها خرج هاربا من جحيم البطالة والتهميش الذي يعانيه، أم هل نصبح نحن أيضا بلد استقبال للــ”حارقين” من بلدان جنوب الصحراء فنقتسم الرغيف الذي قد لا نجده في قادم الأشهر مع الوافدين علينا هربا من جحيم أوطانهم؟
أظنّ أن حكامنا اليوم يمارسون مع الشعب سياسة الإحباط والدفع به لمغادرة ارض الوطن، فهم لا يريدون الاستماع لأوجاع الشعب، ويستنتجون من ردّ فعل هذا الأخير ما يليق بمخططاتهم، ويفعلون به ما يريدون…وهم يرون انهم دائما على حقّ وأن الشعب ومن يعارضهم هم دائما على خطأ…فنصف الشعب عندهم فاسد…ونصفه الآخر مشارك بالفساد…هكذا يفكّرون وكأنهم نزلوا يوم الخامس والعشرين من شهر الاستفتاء ملائكة من السماء…وكأنهم هم الأبرياء ونحن الشعب المشبوه فيه حتى اشعار آخر…أظنّ أن على هذا الشعب بعد رحلة طويلة مع الخذلان والوعود الواهية أن يقول “لا”…”لا” بطريقته المعهودة التي لا تفسد للودّ قضيّة، ألم يقل مولاهم “لا” لمن كان يشاركهم حكم البلاد، فلِمَ يمنعها عن الشعب وهو الذي فشل في تحقيق أي من وعوده الذي ملأ بها أنصاره البلاد صراخا وضجيجا…فهذا السكوت الذي نعيشه سيشجّع حكامنا على المضي قدما في إذلالنا وفرض سياسة الأمر الواقع وقد نجوع…ويطالبنا مولانا بالابتسامة للصحافة الأجنبية حتى نظهر للعالم أننا نضحي ونجوع من اجل أجيالنا القادمة…ومن أجل الوطن وشعارنا “نموت، نموت، ويحيا الوطن”…أي وطن هذا الذي نموت من أجله ونجوع فيه، ويرسلنا للموت غرقا في المتوسط ليخفّض من نسب البطالة…وطن بلا شعب ليس وطنا…بل جحيم لا يطاق…
في بعض الأحيان تحتاج البلاد أن يقول الشعب “لا”…وإلى حاكم يقول لنفسه أيضا “لا”…لكن مشكلة هذا الشعب أنه لا يعرف متى يقول “لا” ولا لمن يجب أن يقولها …”لا” هي كلمة بسيطة بحرفين وجب قولها من الشعب يوم يفشل حكامه في تسيير شؤون البلاد وإصلاح أوضاعها…وهي أيضا كلمة بسيطة وجب أن يقولها الحاكم لنفسه حين يسلك طريقا خاطئة…فحكامنا الذين أغرقونا بــ”لا” منذ استحواذهم على السلطة عليهم اليوم أن يقبلوا بــ”لا” التي قد يقولها الشعب لهم…وعليهم قبل ذلك أن يلملموا بعض شجاعتهم اليوم ليقولوا “لا” لأنفسهم، ولمن هم حولهم ونصحوهم بما أساء للبلاد والعباد…فكلمة “لا” “ما تجيب بلاء” …سواء كان قائلها الشعب أو حاكمه…