عندما تدخّلت السياسة في هذه العمليّة التقنية والعلمية البحتة باتت بلادنا أمام تسونامي من الإصابات…
نشرت
قبل 4 سنوات
في
تعرف البلاد التونسية منذ فترة انتشارا غير مسبوق لفيروس كورونا وبعد أن كانت الإصابات في المرحلة الأولى تعد بالعشرات أو لنقل بالمئات أصبحت اليوم الأرقام مفزعة و بالآلاف مع ارتفاع في عدد الذين قضوا نتيجة الإصابة بهذه الجائحة. والسؤال الذي يطرح هنا ما هي الأسباب التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة الحرجة وبماذا تميّزت الفترة الأولى التي أمكن خلالها وإلى حد كبير السيطرة على انتشار العدوى بين عموم التونسيين؟
صحيح هناك عديد الإجراءات التي سارعت الدولة باتخاذها مثل الحجر الصحّي والحد من التنقل بين الجهات ومنع التجمّعات وغلق الحدود وكان لذلك ودون أدنى شك نتائج إيجابيّة. لكن ما كان لهذا أن يتحقّق دون النقطة الأقوى التي ميّزت تلك الفترة وأعني العمليّة الإتصالية التي تم اتباعها و التي و من خلال نظرة فاحصة وبالرجوع إلى الوراء قليلا نرى أنّها ارتكزت على المراحل الرئيسيّة لأي عملية اتصالية من ذلك :
– تحديد محاور الإستراتيجية التي ستتبع
ـ ضبط الأهداف التي يراد تحقيقها
– الوسائل التي يجب توفيرها
فخلال مدة قصيرة برزت في مختلف القنوات التلفزية والمحطّات الإذاعيّة أسماء لعلماء ومختصين في مجال الأوبئة والأمراض المستجدّة كانت تعمل ضمن فريق موحّد و هو “الهيئة العلمية لمجابهة فيروس كورونا” … و الإطار كان خطّة واضحة المعالم وضعت بعناية فائقة تعتمد بالأساس أساليب الظهور المكثّف في مختلف وسائل الإعلام في أشكال متنوعة مثل الندوات الصحفية المنتظمة واللقاءات والإستجوابات وتأثيث منابر المحاور والموائد المستديرة ، مع التناغم في محتوى الرسالة والتكامل بين أفراد الفريق …
لم يلاحظ أي تضارب في المعلومات أو الأرقام أو محاولات لصبغ المهمّة بألوان سياسيّة كانت ستضعف أهداف الرسالة وتجعل المتلقي في ريبة من المسألة برمّتها … وكانت الأدوار مقسّمة بعناية ، مع اعتماد تبسيط المعلومات الطبّية المعقّدة، و انتهاج الأسلوب السلس والخطاب الذي يراوح بين التنبيه من خطورة المرض ونشر روح التفاؤل بالقدرة على الانتصار … و قد أنتج هذا التمشّي رأيا عاما على درجة عالية من الوعي استجاب على قدر الاستطاعة لكلّ التوصيات والنصائح الصادرة عن أفراد الهيئة العلمية رغم صعوبة الظرف الإقتصادي للعائلة التونسيّة .
لقد أمكن من خلال حصر مهمّة التوعية والإخبار في الهيئة العلمية لمجابهة جائحة كورونا خلق علاقة ثقة واطمئنان بين صاحب الرسالة والمتلقّي … و كنّا أمام فعل اتصالي مركزي، فعّال ومؤثّر كما كنّا أمام جهد لافت للإقناع والتوعية وعمل ميداني تنوّعت أساليبه و أشكاله … مثل الزيارات للمناطق الأكثر تضرّرا بالجائحة وتنظيم اللقاءات وما يحدثه ذلك من ردّة فعل إيجابية لدى عموم المواطنين ….
اليوم و بعد كل هذا الجهد و عندما تدخّلت السياسة في هذه العمليّة التقنية والعلمية البحتة حدث ما حدث و باتت بلادنا أمام تسونامي من الإصابات بالفيروس لعبت فيها القرارات ذات المصلحة الوقتية الضيّقة الدور الكبير … ممّا أضعف بشكل كبير الفعل العلمي الذي تحوّل من عمليّة اتصالية متماسكة إلى عمليّة استشارية وإبداء للرأي. و خفت صوت الذين كان من المفترض أن تكون أصواتهم أعلى وأعلى من الجميع … و تشتّت الجهود ولم نعد نتحسّس آثار العمليّة الاتصالية المتقنة وكثرت الاجتهادات من خارج اللجنة المعنيّة … بل كثر الحديث والتفسير والإطناب في أخبار الموت وأعطيت أرقام وأرقام في مختلف وسائل الإعلام نشرت الرعب بين التونسيين الذين تغيّر سلوكهم من جديد وبصفة تدريجيّة، لا بسبب الإقناع والخطاب العلمي الواضح والصريح بل بسبب الخوف وهذا هو أسوءْ نتائج الرسالة الاتصالية المغلوطة …” فالخوف من الموت غريزة حية لا معابة فيها.. وإنما العيب أن يتغلب هذا الخوف علينا ولا نتغلب عليه ” كما يقول الأديب الكبير عبّاس محمود العقّاد.
لقد بيّنت التجربة على قصرها أنه لا يمكن التخلّي فجأة وبالمزاج البغيض عن واحدة من أهم اختراعات البشرية وأعني الإتصال. و هو علم له مقوّماته وأسسه وأركانه وأساليبه، والعمليّة الاتصالية لا يمكن أن تصل إلى أهدافها إذا تميّزت بالعشوائية والاجتهاد حسب الظروف أو تداخل فيها الفعل السياسي بالفعل العلمي … و يعرّف قاموس كامبريدج السياسة بأنها ” العلم الذي يهتم بدراسة الأنظمة الحكومية والسياسية، وكيفية تنافس الأشخاص على السلطة وتوظيفها لحكم البلاد” … أما قاموس علم اشتقاق الألفاظ فيعرّف العلم بأنّه ” الأسلوب المنهجي الذي يقوم ببناء المعرفة و تنظيمها ” و لكم تبيان الفرق بين المفهومين أما الإتصال فتعريفه هو “عملية هادفة تعمل على نقل المعلومات من إنسان إلى آخر؛ بهدف إيجاد نوع من التفاهم والانسجام المتبادل بينهما ” و سواء تعلّق بالفعل السياسي أو العلمي فإن العمليّة الإتصالية بكلّ شروطها لا يمكن الاستغناء عنها مهما كانت الأحوال والظروف.