لِمَ تأبوْن دُخول التاريخ من الباب العريض يا سيادة رئيس الجمهورية ؟ *
نشرت
قبل 3 سنوات
في
تقول إحدى المؤرّخات الباحثات إن عظماء التاريخ يتميّزون عادة بجرأة نادرة وإقدام غير مسبوق على رسم سُبل وثنايا جديدة لا يتوقعها أحد خلال الأزمات الكبرى.
قلتم سيدي رئيس الجمهورية التونسية ذات لحظة متشنجة إن “اللحظة ستحين عندما تحين”، وكنتم تقصدون أن لكل قرار أوانه وأنكم واعون تمام الوعي بأهمية اختيار لحظة المواجهة الحاسمة وأنكم لن تتركوا شعبا وضع ثقته فيكم فريسة سائغة بين مخالب الكواسر وأنياب آكلي لحم الخيول الميّتة وأنكم ساهرون على صوْن تماسك الدولة والذود عن تاريخها وأنكم لن تتركوا الحبل على الغارب (وضع الحبل على الغارب : اي وضع حبل البعير على سنامه ليرعى حيث شاءَ) .
لا أعتقد شخصيا أنه يغيب عن أبسط التونسيين اليوم توصيف اللحظة التي تمر بها بلادنا بكونها لحظة فارقة بات فيها مجرّد البقاء على قيد الحياة حلما وطنيا أقصى وأصبح فيها الحُلم بعودة النظام السابق شعارا متفشيا وأضحى خلالها التفكير بالاستنجاد بحماية المجتمع الدولي سلوكا لا يخجل منه الناس.
هل يغيب عنكم يا سيادة رئيس الجمهورية :
رعونة سياسات الإبادة الجماعية التي تمارسها حكومات لكم عليها سلطة دستورية ورمزية أقوى من سلطة برلمان اُفرغ من صلاحياته وأصبح محلّ قرف واشمئزاز من قِبل الغالبية العظمى من التونسيين وأنّه تحوّل إلى بؤرة وبائية مُنتجة للإحباط وتثبيط العزائم وخاصة إرجاعنا صورة بائسة حول أنفسنا مُلخّصها أننا محلّ شفقة العالم وأننا أسوأ ملّة أخرجت للناس ؟
وأنكم توارثتم بلدا يتوفّر على الحدّ الأدنى من المقوّمات الأساسية في الصحة والتعليم والبنية التحتية والرصيد الخِبَري والنضج المجتمعي النسبي التي من الممكن البناء عليها نحو مزيد من العلوّ ؟ وأن سياسة التنظيم العائلي الرائدة عربيا وافريقيّا خلّفت شعبا بعدد زهيد كان رُبْعُه على الأقل قادرا على اقتناء 20 مليون جرعة لقاح ضد الكوفيد منذ بداية سنة 2021 من مدّخراته الخاصة لو تحلّى حُكّامنا بما يكفي من الحضور الذهني الاستراتيجي وحسن التفاوض مع مخابر تصنيع اللقاحات ؟
وهل يغيب عنكم ضراوة النزيف الحاصل للبلاد بعد عملية النّحر التي تعرضنا إليها ؟ مهندسون وأطباء وتقنيون وخبراء درسوا وتكوّنوا وتصلّب عودهم من ثمين دمنا ونُسغ تراب الوطن تستقطبهم شركات العالم ومستشفياته ومخابره بالآلاف جاهزين مجهزين.
وهل يغيب عنكم أن رصيد الثقة النسبي الذي كان لدى المواطن التونسي في دولته ومؤسساتها تآكل تماما إلى درجة أصبحت معها مشاهدة أخبار الثامنة مساءً عبارة عن حصة لتعذيب التونسيين بشكل ممنهج وذلك بواسطة بث كل ألوان الترهدين والتكمبين وسياسات التمكين…ولكن في نفس الوقت فرصة لكيل شتى أنواع السبّ والشّتم والذمّ في وجه رموز دولة خذلتهم وتخلّت عنهم زمن الشدائد وألقت بهم في أتون المحرقة ؟
وهل يخفى عنكم يا سيادة رئيس الجمهورية أن مقولات “حمايتكم لدستور البلاد” و “ضرورة تحلّي مؤسسة الرئاسة بالحرص على استكمال بناء المؤسسات الدستورية” و “قدسيّة تحصين مسار الانتقال الديمقراطي” و “أهمية محاربة النزعات الانقلابية واحترام الشرعية” …كلّها مقولات زائفة وشعارات مغشوشة وحساء رديء مجّه التونسيون بعد اكتشافهم لكوْن ديمقراطيتهم الجوفاء لا تُغني من جوع وأن دستورهم المرصوص بالتّبن والحلفاء لا يُشفي من وباء وأن بناءهم الدستوري المزعوم لا يغدو سوى كونه عِلكة لفَظها الناس وكفروا بها.
وهل لا ترون أن الأغلبية الساحقة من التونسيين عبّرت ميدانيا عن إعلان القطيعة مع منظومة الحكم الحالية ونبذها للسياسيين الذين تداولوا على الحكم منذ 2011 مُطالبين بحلّ البرلمان ومراجعة هيكلة الحُكم ورحيل الحكومة الحالية التي لم تُنتج سوى الموت والحزن واليأس ومزيد من الفقر وانسداد الأفق ؟
وأعتقد أيضا أنكم من السياسيين الحاكمين القلائل الذين باستطاعتهم التنقّل إلى الجهات والإصغاء إلى مشاغل الناس دون التعرّض إلى صراخ الغاضبين وسُخط الحانقين بما يُفيد أنكم مازلتم تتمتّعون برصيد شعبي يُعطيكم ما يكفي من الشرعية لإعلان نهاية الاستراحة وإرجاع عقارب الساعة إلى نسق اشتغالها الطبيعي وإنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذه اللحظة غير المسبوقة التي تعيشها بلادنا العزيزة.
لا أحد يشكّ في أن الحرية هي الأصل وأن التسيير الديمقراطي للمجتمعات لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال القانون والمؤسسات وضمان الحريات الفردية والعامة ولكن في زمن الأزمات العاصفة التي تهدّد وجود الدولة نفسها ونسف تاريخها وتدمير مكتسبات المجتمع وبلوغ هشاشة الحكام وفسادهم درجة ترك شعب بأسره أعزل في وجه أخطر وباء في تاريخ البشرية… أمام واقع كهذا، تقف العربية الفُصحى عارية تماما أمام فداحة المشهد وإعلان النوايا الطيبة عاجزا في وجه الموت المُحقّق الذي يتهدّد التونسيين ويتأكّد بالتالي اللّجوء إلى التصرف كزعيم تاريخي قادر على استدعاء قوّة الدولة وجبروتها وتوظيفهما بشكل إيجابي في إيقاف المهزلة والتأسيس لمسار ديمقراطي من طراز جديد يقطع مع الفوضى وتحويل المؤسسات التمثيلية وهياكل الحكم إلى بؤر للفساد والتحصّن ضدّ الملاحقة القانونية.