.… بل يعيشون آلاف السنوات سواء في شكل تمثال، أو هرم، أو مومياء مذهّبة، أو سيرة في الذاكرات، أو أعمال ووقائع تنحفر في تاريخ الأرض …
لهذا لا يمكن أن يقال غن “بيليه” بأنه مات و اندثر وراح في الغابرين …
و لا يمكن لقائل أن يقول و “ما” بيليه هذا غير مجرد لاعب كرة قدم؟ … ليس لاعب كرة القدم، بل هو “كل” كرة القدم … بفضله هو أوّلا و أسبق من كل نجوم اللعبة، تحوّلت ركضة اثنين وعشرين شابا وراء قربة جلد مستديرة، من تسلية كباقي التسليات … إلى شأن خطير يمكن أن يثير شعوبا و يسقط حكومات و يحرك جيوشا و يشعل حروبا، و رهانا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا تهون لأجله ثروات جرارة و آبار نفط ومواسير غاز طبيعي … وانتقلت فيه مستعمرة برتغالية سابقة غارقة في الفقر والنسيان، إلى إحدى الدول العظمى، بل الدولة الأعظم والأكثر تأثيرا، على الأقل كل أربع سنوات …
عالم الكرة سماء مرصعة بالنجوم، ولكل نجم نظارة ومريدون ومعجبون منهم من بأسطورة مارادونا، أو من يرى في ميسي شيطانا خارج المقارنات، أو مغرم بكريستيانو، أو هائم بزيدان أو بلاتيني أو توتي أو إينييستا … أنا بنفسي كنت ومازلت أعشق لعب “يوهان كرويف” و أناقته وفكره الفني الفنان كلاعب ساحر ومدرب عبقري …
ولكن عند التفكير بعقل ووضع كل أجزاء اللوحة أمام عيوننا، تختفي كل الأسماء والخطوط والملامح ليبقى ملمح واحد طاغيا … وهو لشاب أسمر اللون، يرفع يدا ويرسم ضحكة عريضة، ويلبس قميصا أصفر عليه رقم 10 … إنه الرقم الذي صار بمفرده علامة امتياز، وهو بطل العالم سنة 1970، وبطل العالم قبلها، وبطل العالم قبل قبلتا … ثلاثة تيجان على رأس واحدة، عبث فيها بمنتخبات لا لعب معها قوة دفاع و مهارة لاعبين ودهاء مدربين … إيطاليا وحدها التي نكّل بها بيليه ذات نهائي في مكسيكو، كانت تضمّ أسماء هي الآن لم تعد لبشر، بل لشوارع ومعالم خالدة وصفحات مجد (ماتزولا، ريفيرا، ريفا، فاكيتي …). وقس على ذلك ألمانيا بيكنباور ومولر، وإنكلترا بوبي شارلتون وبوبي مور، و منتخبات أخرى ونجوما آخرين وسيقانا لا تقلّ هندسة زخارف أو مطارق ضرب.
كل هذه الكتائب الرومانية المدججة كانت تخاف وترتعب من فتى قصير القامة (1.72 م) بشوش على الدوام كأنه عازف في فرقة جاز … ولكننا نتذكره و نحن صغار، كان يرتفع فوق طوال الطوال، ويقصف كالمدفع قوة الأقوياء، و يصيب بالإغماء أنبه النابهين، ويحكم بمفرده في ميدان اللعب ولو عمل لمستين ثلاثا في تسعين دقيقة … هدف القرن لمارادونا؟ أنجز مثله بيليه وهو في سن السابعة عشرة … هدف فان باستن العجيب ضد روسيا؟ بيليه يقدر على تسجيله من خارج الـ 18 لا من داخلها … “باننكا” زيدان في 2006 أو “واحد اثنان” كرويف لتنفيذ ضربة جزاء؟ فعلها بيليه قبلهما في مباراة استعراضية بقيت تاريخا …
لكل نجم بصمة ولحظة نبوغ وإنجاز فريد وحركة فنية مبتكرة … ولكن بيليه كان أسبقهم إلى كل هذا، بل يقيني أن ما اخترعه ابن سانتوس من حركات وفنيات فردية، يتجاوزهم جميعا وحقيق بأن يسجّل في حقوق التأليف وبراءات المخترعين …
لقطة واحدة تلخص عبقرية هذا اللاعب الوحيد الخالي من العيوب والموشك على الكمال وهي … حين قام بلقطة فنية لا يعرف سواه سرّها أمام أحد حراس المرمى، ومع ذلك ضاعت الكرة بسنتيمترات قليلة … استدارت الكاميرا إلى وجه الحارس المحظوظ، فإذا به يتنفس الصعداء ويرفع عينيه إلى السماء حمدا على السلامة …
فارقد بسلام أيها الملك الأسمر، فقد فتحت أيضا بني لونك الجميل بابا رياضيا هو الآن مفتوح على مصراعيه … بوّابة للحرية وتأكيدا لإرادة الشعوب على قهر أي شيء … ومن لاشيء …