جور نار

ماذا عن الوضع السياسي بالبلاد ؟

نشرت

في

على إثر استقالة رئيس الحكومة السابق كضربة “دستورية” نقلت ـ في نظام برلماني ـ صلاحية تعيين حكومة بديلة من قصر باردو إلى قصر قرطاج … و قطعت الطريق أمام مثول الفخفاخ أمام مجلس النواب و ما كان سيتلوه من مساءلة و لائحة لوم فإقالة … و ذلك ما كان مبرمجا في خطة حركة النهضة و كتلتها و حلفائها … على إثر هذا، اعتلى هشام المشيشي سدة رئاسة الحكومة مسنودا بأغلبية مريحة متوجسة من فرضية حل البرلمان و انتخابات مبكرة “غير مضمونة” لبعض الأحزاب و الجهات … في طيف يبدأ بـ “نهضة” أغلبية و ينتهي ببعض الأحزاب أو الكتل الأخرى، مرورا بزمرة النواب الوصوليين الذين تحركهم دوافع شخصية و انتهازية تباع و تشترى …

<strong>محمد الزمزاري<strong>

ورث المشيشي عن حكومة سلفه وضعا اقتصاديا و اجتماعيا مترديا جدا على شاكلة ما ورثه الفخفاخ عن الحكومة التي سبقته … و زاد انتشار وباء الكورونا بكامل البلاد مصاعب إضافية في ظل قطاع صحة يشهد ترديا متناميا بسبب إهمال الحكومات المتعاقبة بعد 2011 … إذ اختلت الخدمات الصحية و انكشف فقرنا المدقع تجهيزات و مبان و أدوية و موارد بشرية و حوكمة … في غياب برامج إصلاح لقطاع لم يطرأ عليه إصلاح و لا دعم، بل تدهورت حالته بعد ارتخاء العمل الوقائي و ترهّل الخطوط الأمامية خاصة على المستويين المحلي و الجهوي … و لولا الجهود و التضحيات التي يقدمها عموم أعوان الصحة، لرأينا بشكل أفدح نتائج ضرب القطاع العمومي و تغوّل القطاع الخاص على حسابه. …

حاول المشيشي طرح برنامج حكومته … رغم أن الملاحظين اعتبرو أنه لا يتجاوز صبغة عامة و سطحية و لا يرتقي إلى مستوى برنامج حكومي.. و مما زاد بلة أن رئيس الحكومة تورط في إثارة احتقان حاد متعلق بمشروع سحب القانون 116 لفسح المجال أمام مشروعين آخرين يهدفان إلى ضرب الإعلام و الإدارة في مقتل … و الأخطر أن جل المراقبين وضعوا ذلك في خانة ” مقايضة” بين رئيس الحكومة الجديد و حركة النهضة و حليفيها ائتلاف الكرامة و قلب تونس … و يتم بمقتضى هذه الصفقات المتتالية تمتيع الحكومة بحزام سياسي يغنيها عن وصاية الرئيس سعيّد و تقلباته و إهاناته … مقابل تمرير تشريعات قد تقضي على آخر بقايا الدولة المدنية في تونس …

الأجنحة المتكسّرة

و إذا قمنا بقراءة عاجلة للساحة الوطنية اثر انهيار بعض الأحزاب مثل “نداء تونس” و تفكك أوصال “الجبهة الشعبية” لاحقا، سندرك مدى اتساع رقعة الفراغ السياسي على هذه الساحة … و هذا ما أدى حتميا إلى ظهور فسيفساء من الأحزاب و الكتل التي تريدها المافيا الاقتصادية و السياسية بطريقة أو بأخرى … و قد أفسح ذلك المجال للغة مناكفة و بلطجة و عنف لا ترتقي إلى مكانة مجلس النواب أو انتظارات التونسيين منه…. تربعت هذه الأحزاب وسط البرلمان، في غياب شبه كلي للقوى التقدمية ؤ بالتحديد للجبهة الشعبية إثر اتقسامها بسبب البيروقراطية السائدة و النرجسية و اجترار خطاب إيديولوجي مستهلك… و سواء لدى المكونات التي كانت في الجبهة أو سواها من التيارات التقدمية، فقد فشل جميعها الآن في تحصيل شعبية يستحقها اليسار تتويجا لتضحياته التاريخية و نضالاته … و ما عليه اليوم إثر هذه الكبوة إلا أن يلم شتاته و يطوّر مناهج عمله و خطابه السياسي و يلتحم أكثر بالطبقات الشعبية …

انكمش اليسار على مستوى حضوره تحت قبة مجلس النواب فأدى ذلك إلى فرض خارطة أحادية جامدة و تسليم مقادير أعلى سلطة في البلاد إلى تيارات لم تخدم البلاد و من غير المتوقع أن تخدم سوى مصالحها … و قد رأينا أن هذه الأحزاب هي امتداد للوبيات تتشبث بالسلطة و تتقاسمها منذ عشر سنوات و لم تتغير فيها إلا بعض الأسماء و التكتيكات … ..و يحدث أحيانا أن يقع تنافر أو تلاسن أو تمثيل دور الخصومة بين كتلة و كتلة، أو بين قصر و قصر، أو بين رئاسة و رئاسة … و لكن الحصيلة في النهاية واحدة، و عقلية الغنيمة هي الغالبة، و الباقي من ذلك كثير من الجعجعة اللفظية و معارك البلاتوهات التلفزية، توهم بالحركة في حين أن البلاد واقفة … و إن تحركت فإلى الوراء أو إلى ما تحت الصفر كما تنطق به مؤشرات النموّ …

شمشون و دليلة

أما أهم ما أفصحت عنه الساحة الوطنية فهو الحضور المتنامي للحزب الدستوري الحرّ، الذي نجح في شحذ همم الدساترة و التجمعيين و عديد الشرائح الاجتماعية في عمق البلاد … و ذلك بفضل خطاب قوي مقنع واضح و صراع مباشر مع العنوان الأوضح للخلطة السياسية القائمة … و هذا يمكن تسجيله ضمن مفارقات التاريخ و غرائب الأمور … فبدهاء لا نظير له، نجح حزب الدستور (ذو التوجه اليميني طول عمره) في استبطان مقولات اليسار التي فشل اليسار في إقناع الناس بها … و نجح في تعلّم أصول اللعبة الديمقراطية (رغم ماضيه الاستبدادي الطويل) التي سقطت في امتحانها جميع الأحزاب و الشخصيات ذات الرصيد النضالي الديمقراطي … و نجح في تقديم خطاب متماسك ثابت يقطع مع الخطابات المزدوجة و حالات تقلّب المواقف التي طغت على طبقتنا السياسية و أفقدتها احترام الشارع التونسي … لذلك توصّل دساترة ما بعد 2011، إلى التأقلم و الإقناع دون حاجة إلى وسائل السلطة كما كان قبل 2011 … بل يمكن القول بأنهم تجاوزوا كبواتهم القديمة بشجاعة نادرة، و كأنهم يستعيدون وهج أسلافهم في النصف الأوّل من القرن العشرين …و لعل هذا ما يفسّر حشدهم لشعبية حقيقية تضعهم في أعلى نوايا التصويت طبقا لآخر عمليات سبر للآراء …

. يبقى اللغز الكبير متعلقا بالحزب الأكثر استفادة من 2011 و الأرسخ قدما في السلطة و على جانبيها … حركة النهضة كانت تمثل حلاّ و أملا بالنسبة إلى قطاع هامّ من الناخبين … و قد نجحت لحد الآن في حصد جل نتيجة اقتراع مهما كان حجمها … مما يحمّلها المسؤولية الأكبر في سير البلاد إن خيرا أو شرّا، و يعطي لما يحدث في دواخلها أبعادا وطنية و حتى إقليمية لما قد يتولّد عن ذلك من تداعيات … لهذه الأسباب يقلق التونسيون و هم يلاحظون بوادر تآكل مستمر و انقسام صلب هذه الحركة التي تستعد لتنظيم مؤتمرها قبل نهاية السنة … و ذلك في ظل خلافات حادة قد تعصف بالحركة التي شهدت في الفترات الأخيرة استقالة العديد من قياداتها … كما يثار داخلها جدل عنيف تحوّل إلى العلن، و يتعلق بعدم التمديد لرئيس الحركة طبقا لنظامها الداخلي، أو ديمومة بقائه على رأسها، كما يرغب في ذلك الشيخ و أنصاره و مقرّبوه …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version