يقول أحد المواطنين ” ندمت كثيرا على القرار الذي اتخذته ذات أمسية قائظة باصطحاب عائلتي إلى الشاطئ للتمتع بنسمات البحر و التّخلّص من حرارة المدينة الخانقة و روتينها القاتل
جولة تسببت في عملية جراحيّة معقّدة لابنتي بعد أن مزّقت قدمها شظيّة بلّوريّة تسبّبت لها في نزيف حادّ … كنت أمنّي النّفس بجلسة مريحة هادئة وبممارسة بعض الألعاب الشاطئيّة صحبة الأطفال فوجدت نفسي أجري بين أروقة إحدى المصحّات و مركز التبرّع بالدّم و روائح المعقمات و فواتير العلاج … و وجدت ابنتي نفسها مضطرّة إلى ملازمة السرير لأكثر من شهر والخضوع بعدها لحصص العلاج الطبيعي محرومة من كلّ أنشطتها و ألعابها الطفوليّة
و هذا الكلّ علاش؟ لأنّ أحدهم قرر أن يرمي نفاياته في الشاطئ و لم يجمع فضلات طعامه و شرابه بعد الجلوس و الاستمتاع ، ولأنّنا شعب يحرص على نظافة بيته من الدّاخل و لا يتوانى عن الإلقاء بالفضلات في كلّ مكان من الشارع”..
و نحن نحتفل بعيد الأضحى تكفي جولة في شوارع المدن و الأحياء لندرك حجم الكارثة، فضلات تبن و خرفان و جلود أضاحي و تفحّم أماكن ” تشويط الرؤوس” … أكداس نفايات مرميّة أينما اتفق ، المهمّ أنّ ” المواطن ” تخلّص منها و أبعدها عن بيته …
قوموا بجولة على ” كورنيش” أيّة مدينة من المدن و سترون كمّ الفضلات الملقاة أرضا .. قشور قلوب ، بقايا غلال ، قراطيس مثلّجات ، معلّبات طعام ، كراتين بيزّا ، لفائف فريكاسيه و بمبلوني ، علب مشروبات بأنواعها …. و الكلّ يمرّ بها بلا مبالاة أو اهتمام و كأنّ الجولة لا تحلو إلا بالدّوس فوقها و المشهد لا يكتمل إلا بوجودها…
— و هنا لن أتحدّث عن صفاقس فتلك تحتاج إلى مجلّدات و أكاد أقول إنها قد صارت عاصمة الزّبلة و يبدو أنّ معضلتها أبديّة و تهميشها متعمّد —
يقول روبرت فيسك : “لماذا تبدو بيوت العرب غاية في النظافة، لكن شوارعهم والأماكن العامة تملؤها القاذورات ؟
هذا الأمر في غاية الدقة ، والسبب أن العرب يشعرون أنّهم يمتلكون منازلهم، ولكنهم لا يمتلكون أوطانهم “
فماذا لو قرّرنا و نحن نحتفل بعيد الأضحى أن نضحّي بأنانيّتنا و نريق دماء تشنّجنا و توتّرنا و أن نجعل الحبّ قِبلتنا فنرضى باختلافاتنا و نقبل بعضنا البعض و نحسّن سلوكنا و خطابنا ، أمّا إذا بقينا على هذا الحال و لم نغيّر عقليّتنا فلن نستطيع أن نبني بلادنا و لن تستطيع قوانين الدّنيا و دساتير العالم أن تغيّر من وضعنا
فماذا يفعل الدّستور لشعب يتفنّن أفراده في استغلال بعضهم البعض و تشويه بعضهم البعض ؟
ماذا يفعل الدّستور لسائق سيارة أجرة ( لواج) يستغل ظروف العيد و لهفة المسافرين لبلوغ ولاياتهم وملاقاة عائلاتهم فيضاعف سعر السّفرة تحت شعار “كان عجبك و الا اشرب من البحر” ( السفرة بين تونس و قابس بلغت 50 دينارا يوم الجمعة )
ماذا يفعل الدّستور لأصحاب المخابز الذين ضاعفوا يوم الوقفة سعر الباقات لتصبح 400 مليم و المواطن المسكين ما عندوش حق يناقش و شعارهم في ذلك ” هزّ و الاّ خلّي ” …
ماذا يفعل الدّستور لمسؤولين لا يحسنون التصرّف في مواردهم و استشراف حاجيّاتهم و الاستعداد لمواسم الذّروة و يتفنّنون في التنكيل بالمواطنين ( الصوناد التي تقطع المياه على جهات عديدة من الجمهورية في العيد و قبله و بعده و الخطوط الجويّة التونسيّة التي ” مرّرت ” فرحة العيد و تلاعبت بأعصاب المسافرين فألغت رحلاتهم و أخّرت البعض منها لأكثر من ثلاثة أيام .. و غير هذين المثالين كثير …)
ماذا يفعل الدّستور حين ينسى الممسكون بتلابيب الحكم بناء الإنسان الذي تسوء أخلاقه أكثر فأكثر ويتشنّج أكثر فأكثر و هو يرى صراعاتهم و محاولاتهم للتحكم في مفاصل الدّولة و فيه و في تفاصيل حياته فتزداد ثورته و تمرّده و يلعن البلد و وجوده في هذا البلد ..
هذا الواقع لن يغيّره دستور بأبوابه و فصوله و ثغراته و تأويلاته و حتى تعديلاته … هذا الواقع تغييره مرتبط بتغيير العقليات ، بالتّمييز بين مفهوم الوطن و المواطنين ، و الدولة و الحكّام . هذا الواقع تغييره مرتبط بالتّعليم و بتثقيف المواطن و بحثّه على أن يكون قدوة حسنة
فماذا ننتظر من طفل يرى والده يرمي علبة السجائر أو قارورة المشروب من نافذة السّيّارة
و ماذا ننتظر من طفل يرى أمّه تكدّس الفضلات أمام بيت الجيران حتى يبقى مدخل بيتها نظيفا
و ماذا نتوقّع من أبناء يتباهى والدهم أمامهم بأنّه ضاعف دخله في فترة الأعياد لأنّه استغلّ حاجة المسافرين
و ماذا نتوقّع من أبناء يرون والدهم أو والدتهم يستغلّان فترة الامتحانات للإثراء من التلاميذ
و ماذا نتوقّع من أبناء يرون والدهم (أو والدتهم) يفتخر بأنّه أجرى عمليّة لمريض لا يحتاجها أو تقاضى أتعاب مرافعات لم تكن لتكون لولا جهل موكّله و ثقتهم به .. و قس على ذلك الكثير
إنّ كلّ دساتير الدّنيا و قوانين العالم لا يمكن أن تحسّن وضعنا و وضع بلادنا ما لم نعتن بالإنسان فينا و لم نهذّب سلوكنا و نرتقي بمعاملاتنا …
و إن شاء الله كلّ أيامكم أعياد و يجي نهار و نشوفو تونس بينا أفضل و خير