تعيش تونس منذ أكثر من 3 أشهر على وقع تطوّرات سياسية و تجاذبات بين أطراف مختلفة زادها الوضع الاقتصادي المتأزم خطورة …
و بدل أن نبحث عن حلول سريعة تخرجنا من المأزق و تبعث الأمل في المواطنين، فإننا نسير في خيار مختلف و لا يبدو حل الإشكاليات اليومية أولوية لدى السلطة الحاكمة و خاصة لدى رئيس الجمهورية … فأزمة النفايات في صفاقس تراوح مكانها منذ قرابة الشهرين و لم يبحث لها عن حلّ جذري و لم يفكّر حتى في تعيين وال على المدينة منذ قرار إعفاء الوالي السابق في شهر أوت الماضي . و ضعف السيولة في البلاد وفقدان بعض المواد الأساسيّة لا يحتاج منه ـ على ما يبدو ـ إلى بحث عن حلول اقتصاديّة قصيرة الأمد … فكل ما يشغله هو التمكين لمشروعه السياسي و تحضير الأرضية للانطلاق في تنفيذه على أرض الواقع
و الحكومة رغم أننا لا نعرف عنها شيئا و رغم اعتمادها نفس السياسة الاتصالية لرئاسة الجمهورية التي يغيب فيها الحوار و الشفافيّة فلم نشاهد أعضاءها و حتى رئيستها إلا مطأطئي الرؤوس مستمعين للرئيس و هو يلقي عليهم خطبه الأسبوعيّة في المجالس الوزاريّة ، إلا ان الواقع يؤكد أنها تعيش أزمة حكم و تعاني تبعات تركة ثقيلة ورثتها عن الحكومات المتعاقبة، و أزمة اقتصادية غير مسبوقة بسبب فقدان الموارد الخارجية و إغلاق المؤسسات الدولية الأبواب في وجهها … ومازلنا إلى اليوم لا نعرف كيف ستتم تعبئة الموارد لإكمال ميزانية 2021 التي تشكو نقصا بحوالي 9.7 مليار دينار و لا ما هي ملامح ميزانية 2022 خاصة بعد الخطاب القصووي لرئيس الجمهورية و استعدائه لكل الأطراف داخليا و خارجيا ، و مع تنامي البطالة و بلوغها نسبة 18.4% و هي نسبة قياسية لم تبلغها تونس قطّ حيث تجاوز عدد العاطلين عن العمل 740 ألف عاطلا …
في هذه الظروف يأتي اجتماع الحكومة مع اتحاد الشغل في بداية الأسبوع و يأتي كذلك خطابان متتاليان لرئيس الجمهوريّة يومي الخميس و الجمعة
أمّا عن لقاء الاتحاد بالحكومة الذي أسال الكثير من الحبر و استدعى الكثير من التساؤلات قبل انعقاده، حيث أنّ الجميع كان ينتظر مآلات اللقاء لما فيها من انعكاس على جوانب حياة التوانسة، و كان الخوف من أن لا يلتقي الطرفان على رؤية واحدة فتتعمّق الأزمة في البلاد. و لكن التصريحات كذّبت التخوّفات حين خرج الجميع باسمين هاشين، ليطمْئنوا الشعب على الالتقاء حول وجهات النظر و الاتفاق على حل كل المشاكل و الشروع في إصلاح قطاعات هامة كالتعليم و الصحّة و النقل و غيرها… بل أكثر من ذلك، إذ وقع التأكيد على تفعيل الاتفاقيات السابقة و على التنسيق للتفاوض حول الزيادات في الأجور. و بقي الملاحظون يتابعون الأمر “مزبهلّين” ! فمن أين ستأتي الحكومة بالأموال اللازمة لذلك و كيف ستستطيع التوفيق بين طلبات الاتحاد من جهة و شروط صندوق النّقد الدّولي للعودة إلى المفاوضات من جهة أخرى … كيف تقدّم الحكومة وعودا كتلك ؟ و أيّ فخّ وقعت فيه ؟ و بأيّ عقل تفكّر الدّولة إن لم يكن عقل “التغفيص” ؟
من جهة، حكومة تعِد الاتحاد يوم الاثنين بتحقيق بعض مطالب الشغالين. و من جهة أخرى، رئيس الجمهوريّة يقول للشعب يوم الجمعة بأنّه لن يفعّل القانون عدد 38 الخاص بتشغيل أصحاب الشهائد العليا ممّن طالت بطالتهم و يعتبر، كما صدر في بيان الرئاسة، أنّه “وُضع في أوت 2020 كأداة للحكم و احتواء الغضب و بيع الأوهام و ليس للتنفيذ” . و لكنّ السؤال البديهي الذي أهمل قيس سعيّد الإجابة عنه هو : لماذا صادقت على القانون و أمضيته في الآجال القانونيّة و أصدرته في الرّائد الرّسمي إذا كنت تعتبره بيعا للأوهام ؟ لماذا لم تكن لك حينها شجاعة الاعتراض عليه و شرح وجهة نظرك للمواطنين ؟ أم أنك أيضا – مثل الآخرين الذين تتهمهم دوما – كنت تريد من خلاله نصب فخّ للحكومات التي تعيّن رؤساءها ثمّ تعاديهم ؟؟
و لكم أن تتخيلوا ما أثاره هذا التصريح من غضب في صفوف الشباب المساند للرئيس و الذي كان يرى فيه الأمل للخروج من شبح الفقر و العطالة، فسقطت آماله و أحلامه في وحل السياسة و الحسابات الشعبويّة.
أمّا عن خطاب يوم الخميس و بخلاف الاسطوانة المعهودة من الحديث عن تطهير القضاء و رغبة الشعب في تطهير القضاء فإنّ الدقائق الأخيرة منه كشفت عن رغبة الرئيس و تصوّراته السياسية و الاقتصادّية و هي تصورات متلازمة أساسها الانطلاق من القاعدي و المحلّي
فهو يبحث عن تجسيد قانون الصلح الجزائي الذي لطالما تحدّث عنه منذ سنة 2013 والذي يقتضي أن يموّل أكبر الفاسدين أفقر المعتمديّات لينشئ فيها المشروع الذي يجسّد إرادة سكانها و هكذا دواليك حتى يتبنّى كل الفاسدين كل المعتمديّات الفقيرة … و لكنّ ما لا نعرفه إلى اليوم هو هل أصدر القضاء حكما بشأن هؤلاء اللصوص و الفاسدين حتى يفرض عليهم الصّلح الجزائي، خاصة أنّ الرئيس يتحدّث عن قائمة قديمة لما قبل 2011 و عن قائمة جديدة من الفاسدين في عشرية “الثورة” تجاوز عددهم عدد الفاسدين السابقين ؟ فمن هم هؤلاء الذين يتحدّث عنهم و كيف و متى ستقع محاسبتهم و هل مازال لدى الشعب صبر للانتظار؟ و كيف سيقع التوافق على ما يريده شعب كلّ معتمديّة ؟ فلنفرض مثلا أن سكان كل معتمديّة يرغبون في إنشاء مستشفى جهوي أو جامعي في منطقتهم ، فهل سنجد مثلا أربعة مستشفيات متجاورة في ولاية واحدة تطبيقا لشعار الشعب يريد ؟؟
أ لم تتضح للرئيس بعد عبثيّة هذا الشعار من خلال ما تعيشه ولاية صفاقس؟ ففي صفاقس المدينة ، الشعب يريد رفع النفايات التي تراكمت منذ 55 يوما. و في عقارب، الشعب يريد إغلاق المصب الذي تجاوز عمره الافتراضي بسنوات عديدة . أمّا في المحرس، فإنّ الشعب لا يريد احتضان مؤسسة لرسكلة النفايات و تثمينها في منطقتهم وهو نفس الأمر بالنسبة إلى سكان منطقة الزوايد من طريق قرمدة كم 40 . فأية إرادة ستتحقق ؟؟
و بالتماهي مع ذلك فيسيعمل على إصدار مرسوم لإنشاء شركات أهليّة لكل فرد فيها سهم واحد .. فماذا ستنتج هذه الشركات؟ و من سيموّلها؟ ومن سيديرها؟ ألا تذكرنا هذه الشركات بفكرة التعاضد التي جرّبت زمن بورقيبة و فشل بن صالح في إرسائها؟
فأين المستشارون الاقتصاديون لرئيس الجمهوريّة؟ ماذا يفعلون؟ لماذا خطورة الوضع الاقتصادي و خطورة هذه الأفكار التي تضعف السلطة المركزيّة و تتسبب في تفتيت الدّولة؟ أين ذهبت كفاءات البلاد؟ لماذا لا يقع الاتصال بها لإيجاد حلول عمليّة و واقعية و خاصّة سريعة للخروج من النفق و الابتعاد عن خطر الإفلاس ؟؟
إن بلدا يعاني أهله اختناقا اقتصاديّا لا يمكن أن يفكر في مشاكل أخرى. فالمواطن يهمه قوته و قوت عياله، يهمّه جيبه المثقوب الذي يعاني من تبعات الافلاس و التضخّم، يهمّه النّجاح في رفع الفضلات و لا يعنيه النظام السياسي و لا النظام الانتخابي … لكنّ للرئيس رأيا آخر فهو يبحث عن إرساء نظام سياسي جديد يعدّ له عبر استفتاء الكتروني على القياس، و سيصدر عن قريب مرسوما لتنفيذه فمن أخبره بأنّ ذلك هو ما يريده الشعب فعلا؟ متى يستمع الرئيس إلى هواجس أبناء الشعب الحقيقية و ينزل من عليائه و برجه العاجي و يلتفت إلى المشاكل الفعليّة و يبحث لها عن حلول واقعيّة؟ إلى متى و هو يتهم الآخرين بالفساد و التآمر و التنكيل بالشعب و سرقته؟ ماذا فعل طيلة أربعة أشهر انفرد فيها بالحكم؟ هل استرجعنا مليما واحدا من مئات المليارات الموعودة؟ هل تقدّم و لو شخص “فاسد” واحد لإرجاع المال وتشييد المستشفيات والمدارس في الجهات المحرومة؟ هل اشتغل عاطل واحد؟ هل أُنجز مشروع واحد؟ هل عُبّد طريق واحد؟ هل شعر المواطن بتحسّن في قدرته الشرائيّة؟