جور نار

متى ينتهي “الشو” … متى يبدأ العمل؟

نشرت

في

لا نخفي أننا كنا من الهاتفين فرحا في منتصف ليلة الأحد الماضي … طبعا لا بطولة في هذا، فالأبطال (إن كان هناك نصر) هم الذين نزلوا إلى الشوارع منذ صباح ذلك اليوم، و أعادوا على ناظرينا مشاهد الثورة المسروقة في 2011 … و الأبطال الحقيقيون أيضا هم الذين صمدوا في وجه منظومة العفن الجديدة و واجهوها بيدين عاريتين و أكلوا من السب و الضرب و التهديد ألوانا … و الأبطال الأحق من كلّ هؤلاء، هم الذين دفعوا حياتهم ثمنا في محاربة عصابة الحكم التي كانت أشنع و أقسى و أبعد شراهة من جميع العصابات الجائعة التي احتلت تونس على مدى ثلاثين قرنا …

<strong>عبد القادر المقري<strong>

و لكن لنعد إلى البداية … الفرح بماذا؟ الناس خرجت إلى الشارع تلك الليلة مباشرة بعد إعلان الرئيس عن قرارات فتحت أمامهم نافذة للتنفّس و بوّابة للأمل … و كل واحد منهم رأى بعينيه أو بخياله، نهاية نفق تورّطنا في ظلماته سنوات تشبه الدهر … و ساد الاعتقاد بأن الطغمة الطاغية الحاكمة بشتى الطرق منذ 2011، قد جاء الوقت لا فقط لطردها من كرسي الحكم المتمسكة به، بل لمحاسبتها على ما اقترفته من جرم في حق هذا البلد أو ينسب لها، و عما سمحت باقترافه، و عن الأموال الضخمة التي اختفت في عهدها، و عن تلك الحمايات الجانية التي تمتع بها كم مفلت وقح من العقاب … و ذهب في ظن ملايين العقول، أن الثورة التي استولى عليها أناس بفكر لا علاقة له بالثورات، ستعود أخيرا إلى شعبها بعدما يئس تمــــــــــاما منها …

هذا ما دار في الأذهان، نأتي الآن إلى ما دار في الميدان … أنا أولا لم تعجبني تلك الخرجة الرئاسية إلى شارع بورقيبة في الثانية صباحا، ماذا؟ … هل عندك قرارات أخرى لم تقلها؟ هل تبحث عن سماع شكاوى جديدة تسنير بها في قراراتك القادمة؟ أم جعت و تبحث عن مخبزة مفتوحة في ذلك الوقت؟ … يعني أنا أقوم بشغلي و أتمم واجبي (و لو أنه كان متأخرا) و بعد ذلك أخرج للناس لكي أجمع تصفيقاتهم و شماريخهم و مزامير سياراتهم و صيحاتهم بحياتي؟ … في حين علمنا التاريخ أن الباحثين عن الزعامة و النجومية هم من أضرّوا بشعوبهم كما لا يفعل أمكن الأعداء …

و ثانيا كنت أتصور أنه من الغد صباحا، سيجد كثير من مشاهير السرّاق و المتطاولين و العابثين بالدولة، سيجدون أنفسهم في المعتقل منذ الرابعة فجرا … لا تعسّف في الأمر أو تشفّيات متسرّعة، بل مجرد تنفيذ أحكام قضائية باتّة في بعض الأشخاص (و منهم نوّاب) الذين كانوا يربضون فوق رقبة القانون … هذه سهلة جدا و ليست في حاجة إلى علم و فلسفة … و قد انتظرناها خاصة عندما جمع الرئيس بين رفع الحصانة عن أعضاء البرلمان، و بين توليه مهامّ النائب العام … “باز” قلنا جميعا غدا ستشهد المرناقية أكبر أزمة سكن في تاريخها … و لكن لم يقع شيء من هذا، بل واصل منهم التطاوس من واصل، و راح يناور من ناور، و هناك حتى من وجد المجال للفرار نحو الخارج …

و ثالثا، هناك عقوبات صدرت و تبدو لي و كأنها من قبيل خلع أبواب مفتوحة … فأن تتم إقالة أعضاء ديوان رئيس الحكومة أمر بديهي بعد أن تم إعفاء مسؤولهم الأول … و تسميتهم بالإسم و تنزيل تلك الإعفاءات بالرائد الرسمي، نوع من الاستعراض الزائد إن لم نقل تبذيرا في ملء صفحات الجريدة الرسمية  … بل هناك حتى من يرى في بقاء الوزراء القليلين بهذه الحكومة ضربا من العبث، بعد أن أقيل رئيس الحكومة، و الحكومات برؤسائها تعيّن يوم يعيّنون و تذهب يوم يذهبون … و إن كان لا بدّ من إقالة هذا و الإبقاء على ذاك، فلماذا لم نقرأ تعليلا لإعفاء وزيريْ الدفاع و العدل مثلا؟ أكيد هناك أسباب وجيهة فلماذا لا تعلمنا بها؟ لا تقل لي أسرار دولة فلم نطالب أحدا بتفاصيل التفاصيل … و لكن من باب احترام ذكائنا و حقنا كمواطنين مانحي الشرعية (أو الأمانة بتعبيرك) لمن يحكم، أن نعرف ما يدور في بلدنا … هذه تسمّى شفافية، و الشفافية أخت النزاهة، و خصلة النزاهة لم يبق أحد في العالم لم يصفك بها … إذن؟

و رابعا، جميل ما قلته أمام رئيس منظمة الأعراف … فكرة طريفة و منتجة أن نجبر مديني الدولة على تسديد ديونهم في شكل مشاريع بالمناطق الأفقر … و لكن هل عندنا آليات تنفيذ ذلك، و في آجال منظورة ؟ أين و متى و كيف و من سيراقب إنجاز تلك المشاريع؟ بل هناك جدل حول التصنيف الموضوعي للمناطق و الجهات و المدن و القرى و الأرياف، و عندك في الساحل مثلا من بدأ يتذمّر و هو يصنّف نفسه محتاجا مع المحتاجين … الجواب: لا وجود حاليا لآليات تسمح عمليا بتنفيذ هذه المشاريع و من سيقام عليه حدّها … هذه فكرتك منذ عشر سنوات و قد تغيّرت من وقتها معطيات عدّة، فهل سنحيي عظام عزيز ميلاد و بن عياد و علي مهنّي و لا أدري من، بعد أن انتقلوا إلى الرفيق الأعلى؟

لا وجود لنصوص ترتيبية تساعد على هذا، و كان يمكن أن تكون هذه النصوص و غيرها جاهزة منذ أشهر، و كان يمكن أن تكون سيادتك أعددت على الأقلّ مشاريعها و أحلتها للنقاش و المصادقة في مجلس النوّاب … ألم يكن لديك وقت؟ ألم تعدنا بـ “صواريخ” تشريعية ترسلها عليهم؟ أليست لمشاريع القوانين التي يقدمها رئيس الجمهورية أولوية النظر هناك؟ فلماذا لم تفعل؟ … على الأقلّ وقتها نكون حصرنا تعطيل نموّ البلاد و تعثر عدالتها الانتقالية في أروقة المجلس النيابي، و صار مباحا المرور دونه أو تجميده أو تعليقه حتى من شوافر عينيه كما تقول أمّي عندما كانت “تتحلّف” في شقاوتي …

أسئلة كثيرة كثيرة، و حيرة تكبر من يوم ليوم، و واقع لا يريح النفس خاصة بعد أن تنجلي أدخنة الشماريخ، و أغبرة السيقان التي ركضت ليلتها، و زغاريد النسوة في الأعراس و منادي الفرح يرشق باسمك … و نخشى أن يفطر الصائمون على بصلة، و تسفر الهرولة على سراب، و نكتشف أننا نُخدع ثانية بعد أن خُدعنا من قبل و بدل المرة ألف مرة …

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version