جلـ ... منار

محمد الماغوط: مريض نخب أول

نشرت

في

مريض عادي: أخي جاوز الظالمون المدى

<strong>محمد الماغوط<strong>

مريض آخر: إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر

مريض آخر: بيتي بشارع الحمرا غلطان بالنمرة

مريض آخر: و بها تمّت الوحدة

مريضة عادية: بدي عريس أسمر عربي، شرط من المتحدة طلبي.

مريض نخب أول: انتبه، استعد، صباح الخير.

مريض عادي: أصبح عندي الآن بندقية، أصبحت من الثوار

الطبيب: إما أن تسكتوا، أو أستدعي لكم فيليب حبيب

الجميع: صمت، و رعب

مريض نخب أول: استدع ما تشاء، ما زلت عند رأيي، صباح الخير

الطبيب: انتصف الليل، و تقول صباح الخير

المريض: أعرف، و لكن أنا كثوري، لا يجوز أن أرى إلا الجانب المشرق من الحياة، و لذلك يجب أن أرى الظلام نورا، و الغروب فجرا، و الساقية نهرا، و الجوع تخمة، و التسول سياحة، و النهب تنمية، و بناء السجون إعمارًا.

الطبيب: و الهزيمة نصرا، و الاحتلال تحريرا، مفهوم، مفهوم، من أنت؟ الإسم الكريم؟

المريض: نمر بن صقر بن نسر بن عقاب

الطبيب: ما هذا الاسم الغريب

المريض: هذا اسمي الحركي

الطبيب: و اسمك الحقيقي؟

المريض: قطة.

الطبيب: و لماذا تحمل هذه البندقية إذن؟

المريض: لا أعرف، سوى أننا نحن الثوار الأبرياء، عندما نجد سلاحا لا نجد أرضا، و عندما نجد أرضا لا نجد سلاحا، و نريد أن نتصدى للعدو بصدورنا، يأتي من يبيعها من وراء ظهورنا

الطبيب: كل هؤلاء المرضى من ضحايا الخطابات، فلا تزد في طنبورهم نغما بك و ببندقيتك. خذها و انصرف في حال سبيلك

المريض: إلى أين؟

الطبيب: إلى الجبهة

المريض: أية جبهة؟

الطبيب: حيث يوجد الأعداء

المريض: أي أعداء !

الطبيب: ألا تعرف أين كنت تقاتل و مع من؟

المريض: طبعا، كنت في أريتريا، عندما استدعوني إلى الصومال، فرفضت الالتحاق بالمعركة ما لم تلتحق جميلة بوحيرد من الأوراس، و أحمد سوكارنو إلى النبطية، ثم أصبت في السلفادور، و عولجت في الصين، و استشهدت في الكونغو، ثم مررت في الشوارع، شوارع القدس العتيقة … عفوا دكتور، إنني متعب جدا، هل تسمح لي بأن أسند رأسي على وعد بلفور، على مؤتمر الخرطوم؟

الطبيب: نفس الشيء

المريض: في الحقيقة، إنني مشوش، عقلي لم يعد يجمع أي شيء، معي فلَتان نضالي في رأسي، و كل ما أذكره و أعرفه، أنني أحمل البندقية الفارغة بيد، و غصن الزيتون اليابس بيد، و أهيم على وجهي من بلد صديق إلى بلد شقيق، في الأوحال في الأدغال، في الكهوف في الجبال.

الطبيب: راجعون. راجعون …

المرض: أهلي تبرؤوا مني، و جيراني تجاهلوني، ماذا حدث لصلة القربى و حسن الجوار بالمنطقة؟

الطبيب: راجعون. راجعون..

المريض: قصدت أحد الفنادق لأنام، فطلبوا هويتي، و أنا كمقاتل، قدمت لهم طبعا بندقيتي، فلم يعترفوا بها، و ألقوها في وجهي أمام جميع النزلاء، ماذا جرى لحسن الضيافة في هذه المنطقة؟

الطبيب: راجعون. راجعون.

المريض: صدعوا رؤوسنا في الصحف و الإذاعات و الخطابات، بالبندقية، البندقية، و مع ذلك ما من دولة تقبل بها على حدودها، أو في فنادقها، أو مطاعمها، حتى في المدارس و الدامعات قدمتها كمصدقة مدرسية، فلم يعترفوا بها، و لم يتعاطف معي أحد، الأساتذة مستمرون في الإلقاء، و الطلبة في الإصغاء، و أنا و بندقيتي على الرصيف، ماذا جرى للطلاب و المعلمين في هذه المنطقة؟

الطبيب: راجعون. راجعون.

المرض: أعطني أذنك قليلا يا دكتور. أكثر من ذلك، عرضت استخدامها كمجرفة في الحقول، كمطرقة في المصانع، كمكنسة في الشوارع، فلم يعترفوا بها. ماذا جرى للعمال، للفلاحين، للزبالين في هذه المنطقة؟

الطبيب: راجعون. راجعون.

المريض: أعطني أذنك الثانية يا دكتور: حتى أنني مددتها قبل يدي مستعطيا في الشوارع، فأعرض عني المارة، و تآمر عليّ المتسولون، رفاق الأسمال و العاهات الواحدة. ماذا جرى للمحسنين، للمتسولين في هذه المنطقة؟

الطبيب: راجعون. راجعون.

المريض: الكل يريد أن يجهز على الآخر، و يأكل لقمته، و يرتدي ثيابه، و جلده لو استطاع، و لا صوت يرتفع، حتى ليقال إن حرارة المرضى في المستشفيات العربية لم تعد ترتفع إلا خلسة في الليل و بعد إطفاء الأنوار. ما هذا الرعب، يا دكتور؟

الطبيب: راجعون. راجعون.

المريض: تصور يا دكتور اليوم و أنا مختبئ في أحد البساتين، و الرصاص يلعلع فوق رأسي، قالت لي تفاحة همسا من على غصنها: أرجوك، كلني و أرحني من هذه المنطقة… ماذا جرى للفاكهة و الخضار في هذه المنطقة؟

الطبيب: راجعون. راجعون.

المريض: و الآن معدتي فارغة، و جيوبي فارغة، و بندقيتي فارغة، ماذا أفعل؟ هل تسمح لي بأن آكل هذه السماعة؟ إني أنام واقفا كالأشجار فأنا فلاح و لا يضيرني ذلك.

الطبيب: راجعون. راجعون.

المريض: أليس من المفارقات العجيبة يا دكتور، أن المبعوث القادم إلى المنطقة لذبح فلسطين، و تصفية الوجود العربي، و المستقبل العربي، ينام في أرقى الفنادق العربية، و أنا الذي نذرت دمي لاستعادة فلسطين و حماية الوجود العربي، و المستقبل العربي، أنام على الرصيف المقابل لفندقه. أكاد أنفجر.

الطبيب: راجعون. راجعون.

المريض: ثم إذا كان 99 بالمائة من أوراق الحل في المنطقة بيد أمريكا ، و الورقة الأخيرة بيد اسرائيل، فمعنى ذلك أنه لم يبق بأيدي العرب سوى أوراق الرحيل. و لكن إلى أين؟ أكاد أجن.

الطبيب: راجعون. راجعون.

المريض: دكتور. ألا تسمع. أكاد أجن

المرضى (و هم ينهالون عليه ضربا و لكما): يا قليل الوجدان يا عديم الإحساس، حتى الآن لم تجنّ؟

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version