جلـ ... منار

مسافر زاده الشبهات

نشرت

في

 يقــول “غوتــه”: إن أفضل ثقافة، هي تلك التي يكتسبها الإنسان من الرحلات” وربمـا كان هذا الكلام صحيحاً على أيامه، حتى إن أجمل الأعمال الإبداعية، سواء أكانت أدباً أم أعمالاً تشكيلية، ولدت على سفر، لحظة الانبهار الأول، الذي يضعك أحياناً أمام ضدك، فتكتشف نفسك أثناء اعتقادك أنك تكتشف الآخر

<strong>أحلام مستغانمي<strong>

غير أن الوكالات السياحية، لم تترك اليوم من هامش للتيه السياحي، الذي غذّى سابقاً “أدب الرحلات”، وتكفّل التلفزيون مشكوراً، بأن يوفّر علينا مشقة السفر ومفاجآته السيئة أحياناً إذ أصبحنا نعرف كل شيء عن بلدان لم نزرها، وأحياناً نعرف عنها ما يكفي، كي نعدل عن زيارتها.

شخصياً، كنت في صباي منبهرة بصورة أمريكا، كما كانت تبدو لي في أفلام مارلين مونرو، وفريد استير، عندما كان يرقص تحت المطر، وكنت أُصدق فرانك سيناترا، المغترب الإيطالي، “المافيوزي”،الذي أصبح في ما بعد الابن الشرعي لأمريكا وصوت أحلامها، يوم كان يغني أغنيته الشهيرة “نيويورك نيويورك” التي يقول مطلعها، ببهجة المغترب المسافر نحو أرض أحلامه “اشيعوا الخبر.. إني مغادر إلى نيويورك”

غير أني عندما تجاوزت سن تصديق الأغاني، جعلتني أفلام العنف الأمريكي اليومي، أزهد في زيارة أمريكا، وأخاف على أولادي من الإقامة فيها.

وعندما زرت واشنطن منذ سنتين، بدعوة من جامعة “ميري لاند”، لم أُغادر المدينة الجامعية إلاّ قليلاً، خوفاً آنذاك على نفسي ولو عدت اليوم لكنت من يخافه الأمريكيون ويشكُّون فيه، بعد أن أصبح الإنسان العربي مشبوهاً ومنبوذاً بمقاييس الكراهية المشروعة

صديقتي رنـــا إدريس قالت وقتها، إنه كان علي أن أزور نيويورك لأكتشف أمريكا … ولأنني لا أُصر على مشاركة كريستوف كولومبوس، سبْقه التاريخي، فلقد تركت له شرف اكتشافها، خاصة أن ذلك حدث عام 1492 ، أي في السنة نفسها، التي سقطت فيها غرناطــة

  ورنـــا ابنة “منهـــل” دار الآداب، ربما لم تسمع بمقولة صمويل جونسون، الذي وضع أهم قاموس في الإنجليزية، وكان يشهر كراهيته لنيويورك والأمريكيين، قائلاً: “عندما طرد القديس باتريك الأفاعي من آيسلندا وهي خُرافة أساسها أن الجزيرة الباردة تخلو من الأفاعي، سبحت كلها إلى نيويورك، و انضمّت إلى الشرطة فيها” وهو أمر لم يكن ليطمئن امرأة جبانة مثلي  !

وكان كولومبوس قد أبحر في سفينته الشهيرة “سانتا ماريا”، بعد أن تكفّل ملكا إسبانيا، إيزابيلا وفرديناد، بتمويل رحلته، احتفاء بانتصارهما على العرب، بعد أن ساعد زواجهما على توحيد الممالك الإسبانية، وإسقاط غرناطة، التي صمدت في وجه القوات الإسبانية أكثر من غيرها من الإمارات

ولأن كولومبوس كان يؤمن بكروية الأرض، فقد ذهب بسفينته في الاتجاه الخاطئ على أيامه، واكتشف أمريكا، وهو يعتقد أنه اكتشف الهند طبعاً، ما كان المسكين يدري إلى أي حد سيغير اكتشافه العالم بعد قرون من ذلك التاريخ، فقد كانت أمريكا يومها قارة ضائعة في المحيط، تحكمها رماح الهنود الحمر و تصول و تجول فيها خيولهم، و تغطي صحراءها نباتات عملاقة من شجر الصبار و ما كان ثمة ما يشي بأن تنبت فيها يوما ناطحات سحاب تتحدى السماء، أو أن تظهر حضارة تكنولوجية خارقة تغزو العالم و تحكمه و هو ما جعل جورج كليمنصو، وزير دفاع فرنسا أثناء الحرب العالمية الأولى، يقول: “أمريكا هي البلد الوحيد في العالم الذي انتقل بمعجزة من مرحلة الهمجية إلى مرحلة الانحلال، من دون أن يمر بمرحلة الحضارة الوسيطة “

ولست هنا لأُناقش الرجل رأيه، بل لأقول فقط، إن زمن السياحة البريئة قد انتهى، بالنسبة إلى المواطن العربي، الذي نزلت أسهمه في بورصة السفريات العالمية، ولم تبقَ له من ثقافة الرحلات إلى الغرب، إلاّ ذكرى الخوف الحدودي، ومن “أدب الرحلات” إلاّ قلّة أدب الآلات الكاشفة لأمتعته، وغُرف التفتيش التي يدخلها حافياً من حذائه، والنظرات الخارقة لنواياه، والإهانات المهذّبة، التي يتلقّاها في شكل أسئلة

 وعلى العربي الذي يسافر إلى الغرب أن يكون جاهزاً، ليجيب عن شبهة بقائه على قيد العروبة، ولماذا هو لم يشهر حتى الآن ردته

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version