عبد القادر المقري:
عشرية الظلام استهلكت وتفّهت كل ما هو سام وجعلتنا ننفر من كل ما هو حياة ديمقراطية ونحنّ إلى الاستبداد ونحلم بـ “مستبد عادل” … يضربنا ويضرب علينا… ولكن للأسف، لا وجود لمستبد عادل أو مستبد نظيف… الاستبداد دائما ما كان قرينا للظلم واللصوصية والفساد، واسألوا الكواكبي..
الديمقراطية همّ ضروري ولا يمكن لمجتمع حديث أن ينهض من دونها لو فهم مغازيها ونجح في توظيفها… ومع ذلك كرهناها طوال تلك العشرية، والسبب أن ذلك المسخ الذي رأيناه لم يكن هو الديمقراطية… أول أركان الديمقراطية هو القانون العادل نصا وتطبيقا… وهو الحوكمة الرشيدة والحرص الشديد على أموال العموم… الدولة الديمقراطية هي دولة العفة وتواضع الكبار واحترام الحق ولو كان على نفسك، واحترام الآخر ولو كان في أضعف حالاته… وهي إعطاء الفرص لجميع الأطفال أن يتعلموا بنفس المقدار والجودة … ونفس الفرص تعطى للشباب بعد ذلك عند اقتحام سوق الشغل وإنشاء المشاريع … فيصل واحد هو الجدارة، ومقياس أوحد هو العدل… تقول متنهدا مهزوما: مدينة فاضلة؟ لا، بل مدينة ممكنة وقد تحققت في عشرات الربوع، فلماذا تم استثناؤنا وقنعنا نحن بذلك؟
الديمقراطية هي حين يحتكم ضعيف وقويّ إلى القضاء، ويتم إنصاف الضعيف لو كان على حق، حتى لو استنجد القويّ بكل ما لديه من نفوذ… هي حين تحكم المحكمة ضد بنك أو شركة تأمين مهما كان مبلغ الرشوة المعروضة على القاضي… وهي حين تعطل الرئيسة إجراء بطرد عائلة معوزة في قلب الشتاء، أو حين يخفف القضاء حكما عن رجل سرق كيلا يموت جوعا وتنهي الجلسة بإحالة الملف عاجلا إلى وزير الشؤون الاجتماعية … مع المتابعة وربما المحاسبة … الديمقراطية هي حين يرفض القضاة كافة أشكال الوعد والوعيد… في إيطاليا لم تنهزم المافيا إلا على يد أشرف قضاء في العالم… رفض السادة أموالا ومناصب وتعرضوا لكم عملية اغتيال، ومع ذلك صمدوا ووقفوا دائما في صف الشعب لا في صف الأحزاب واللوبيات … الديمقراطية هي ما نسمعه من مواطنينا بالخارج عن رحمة المؤسسات الأوروبية بمواطنيها ومعاملتهم كبشر لا كحجر أو كدوابّ كما تفعل مؤسساتنا المتخلفة وموظفوها الأشنع تخلفا… الديمقراطية هي تربية وحضارة قبل كل شيء… ونحن آتون من دغل اللامبالاة والهمجية لهذا لم تنجح الديمقراطية عندنا…
الديمقراطية هي احترام كل ما هو ضعيف ورقيق ومحتاج لرعاية، والابتسام في وجه من يقصدنا صاغرا قليل الحيلة طالبا قضاء حاجة… الديمقراطية هي معرفة معنى كلمة مواطن، وهي تبجيل وتوقير وتقديس للفرد (مهما كان مظهره) كقيمة أسمى في حد ذاتها… ونحن تربينا في بيئة حكم عليها التقليد الديني بأن الجماعة أهم من الفرد، وأمير الجماعة فقط هو المهم… بينما الزمن الديمقراطي قلب كل هذا الهرم وأعطى الأولوية للفرد رجل الشارع كي يعامل كأمير… كأنه أخوك الذي لم تلده أمك، أو أخت لا منجد لها سواك… والناس بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم، كما قال الشاعر… اليوم تبجّلني في حضرتك، وغدا أضعك على رأسي حين تكون في منطقة نفوذي وهكذا… من دون توصيات، من دون وساطات، من دون تلفون من فوق… ومن دون مظهر وجهاء…
قلناها… الديمقراطية احترام … والتونسي لا يعرف تقريبا شيئا عن معاني الاحترام… يحترمك التونسي فقط حين لا يضربك أو حين لا يقدح في شرف أمك، أما ما عدا هذا فهو يعتقد أنه “مريڨل” معك… يأخذ مكانك في صف المخبزة (وهذه من خاصيات أطفالهم مثلا) و هو على غاية الاحترام تجاهك… يتحادث مع صاحبه أو في تلفونه بصوت عال بالقرب منك ويقهقه كالرعد و لايهمه فيك إن انزعجت… تطلق زوجته صغارها في قاعة الأفراح أو بين كراسي المقهى كأرانب المزرعة، واحيانا يحتمي أحدهم وراءك وقد يخطف حاشية معطفك في هربه… يسيّقون منزلهم المقابل لسكناك وتندفع المياه المستعملة حتى بلمس بابك … وتنثال الأمثلة بالمئات ولم نذكر ما يُفعل بالفضاء العام … ومع ذلك، يطنب بنو وطنك في الحديث عن الناس النظاف وأولاد البلاد وأولاد الربط وأولاد العائلات… كلهم أولاد عائلات…
الديمقراطية تربية، والتونسي غير متربّ دون أن يشعر… يسافر إلى بلاد الناس ويرى ما يرى من تحضّر وتمدّن وتعايش وتآلف وروح مواطنة، فيعود ليحكي عن كل هذا معجبا دون أن يتساءل لمَ لا نكون كذلك… بلى يتساءل … ولكنه يجيب جازما بأننا شعب عصيّ على الإصلاح … ويستثني نفسه طبعا، ملائكة على الأرض… وها أننا يوميا نسمعهم يخلصون إلى نتيجة أنه لا يمكنهم مواصلة العيش في هذه البلاد… فهم أرقى وأجدر… لا أحد منهم افترض أنه جزء من المشكلة بل المشكلة من ألفها إلى يائها… وفي الأخير وحين يتكاثر حولك أدعياء الطهر ومستحقي العيش في بلد آخر، تكاد تصرخ فيهم: وماذا تنتظرون؟ طيروا كلّكم من هذا البلد الذي لم يعد يليق بعظمتكم، واتركوه لنا، واتركونا فيه … نعيش أو نموت والله لا يرحمنا…
ـ يتبع ـ