تقوم الاحزاب في الأنظمة الديمقراطية على أساس الاختلاف في الرؤية الشاملة و في المقاربات و البرامج … و كل حزب مهما كان حجمه يطرح نفسه على أنه جاهز لحكم البلاد متى اختاره الشعب، لكن الحكم يعود في الغالب إلى الأحزاب الأكثر تجذرا و الأكثر قدرة على إقناع الناخبين بتميز برنامجها.
أردت من هذه المقدمة أن تكون مدخلا لفهم ما جرى في تونس من 2011 و إلى يومنا هذا … و هل أن المشهد السياسي الحالي قادر على إقناعنا بأننا بصدد العيش في كنف مناخ ديمقراطي حقيقي، أم أننا نخوض تجربة لاتمت بصلة لما ينبغي أن يكون عليه التنافس بين الأحزاب السياسية … و للإجابة عن هذا السؤال يتعين علينا العودة إلى المناخات التي كانت سائدة بعد 2011 و كلنا يعرف أن النظام السابق لم يكن يسمح بالتشكل الحزبي و تهيأ له أن المعارضات التي كانت تشاكسه لا تقوى على تقويض أسسه في حين تجند لتيارات الإسلام السياسي باعتبارها تسعى إلى زلزلة أركان الدولة لفرض مشروع ماضوي …
لذلك و عندما تمت الإطاحة بالنظام، لم تتوفر البدائل الحاملة لمشروع لتعويضه و الدخول في أقرب وقت في نظام تعددي و ممارسة الحكم بطريقة مغايرة تماما لما كان سائدا … لقد حضر اليسار بتشكيلات تحمل معها نزاعات السبعينات و ما بعدها، فيما لم تكن الجمعيات و التعبيرات السياسية و الحقوقية ذات وزن يكفل لها لعب أدوار رئيسية … فوجدت النهضة نفسها في المركز و لم يكن أمامها سوى أن تطرح رايتها في قلب الساحة السياسية و كان واضحا من الوهلة الاولى أنها في حاجة إلى كومبارس للدخول في معمعة الديمقراطية المؤدية إلى تنفيد مشروعها المجتمعي .
و منذ ذلك الوقت انتصبت في الساحة أحزاب جديدة سرعان ما انخرطت في لعبة الصراع المجتمعي و اتخدت من وسائل الاعلام وسيلة لكسب المشروعية في الصراع بين الحداثيين و الماضويين، دون أن يكون لديها اهتمام يذكر بمشاكل و مشاغل الشعب الحقيقية … و مما يمكن استحضاره عن تلك الفترة أن تجييش الشارع تم وفق هذا الصراع، حيث تمت مهاجمة أضرحة الأولياء و القيام بمظاهرات ضد الرسوم أو استفزازات حركة “فيمن”، أو مواجهة المحتفلين بالأعياد الوطنية إلخ.
و لعل ما يهمنا مما سبق ذكره أن الانشغال بهذا الصراع لم يمنح الفرصة لعموم الشعب للتعرف على برامج سياسية و اقتصادية و اجتماعية و ثقافية من شأنها أن تنهض بواقعه و تزرع فيه الأمل بحياة أفضل … و ليس من الغريب أن تفشل الأطراف السياسية في عقلنة الأفعال و ردود الأفعال، بل ظلت حبيسة معركة من نوع جديد بين ثوريين و دعاة الرجوع إلى النظام القديم … فلم نتبين يمينا و يسارا يتنافسان على مشروع الحكم بل شخوصا تتحالف ثم تتصارع فيما بينها… و ليس يخفى أن الأحزاب اليوم و رغم صراعاتها السابقة المدمرة للديمقراطية ذاتها و لمكتسبات الشعب التي حققها بعرقه و تضحياته و عذاباته، لم تستوعب الدرس …
أضف إلى كل ذلك صعود رئيس يتصرف بعقلية المهدي المنتظر الحامل لرسالة لا احد يعرف مضمونها، و يعطي انطباعا بأنه لا يكترث كثيرا لما يحصل و ما سيحصل … و لا غرابة في ظل هده الأوضاع الغريبة أن تتحلل مفاصل الدولة و أن تتسع رقعة الفوضى و أن تعم الضبابية…
…لكن إلى متى سيستمر هذا العبث و إلى متى سيواصل المكابرون الاستمرار في معارك و خصومات لا تعني الشعب و إلى متى ستظل سياسات الهروب إلى الأمام مسكنات يستعملها من في السلطة للتخلص من الاستحقاقات المؤجلة على الدوام، مثل إرساء المحكمة الدستورية و إطلاق أيدي القضاء و القيام بتشخيص شامل و محايد للأسباب التي جرت بالبلاد إلى هذا المستنقع