تابعنا على

جلـ ... منار

مطالعات صيفية

نشرت

في

تفاصيل كهذه هي التي تصنعنا.. مساء الشتاء البارد والنوم مبكرًا، ثم الاستيقاظ في طور السِنّة، غير مدرك هل أنت تحلم أم أنك متيقظ، فقط لتنطبع القبلة على جبيني الدافئ وتلمس أرنبة أنف أبي الباردة وجهي، ثم أجد مجلة (تان تان) في يدي..

<strong>أحمد خالد توفيق<strong>

لقد ابتاعها وهو عائد من العمل، وهذا يعني أننا كنا في مساء السبت. أنام والمجلة في يدي على الوسادة.. رائحة الحبر الملون والورق العطرة.. لو أنصفوا لقطروا هذه الرائحة في زجاجات وباعوها بأغلى الأثمان. لم توجد قط مجلة لها هذه الرائحة مهما بحثت، ولا أعرف السبب.. هل كان أنفي أقوى أم كانت مطابع الأهرام تستعمل أحبارًا مختلفة؟ لم أجد قط هذا السحر للورق القديم الرخيص في كل ما قرأته بعد ذلك من مجلات صقيلة فاخرة الطباعة.

فقط عند ظهر الأحد بعد العودة من المدرسة كان بوسعي أن أفتح الصفحات، وأغرق في عالم غريب بعيد: (ريك هوشيه) ومغامراته في تلك القرية الفرنسية، و(مارتان ميلان) والشحنة الغامضة التي ينقلها لوسط أفريقيا، و(سيمون النهر) الذي يخطو لعالم آخر من عوالم ما بعد المحرقة. 

عندما يحتشد أعظم الفنانين الأوروبيين لتقديم الكلمة العليا في فن الشرائط المصورة، وهم يعرفون أنهم يواجهون الوحش الأمريكي الثري القابع عبر المحيط الأطلنطي.. الوحش الذي صنع ميكي ودونالد داك والرجل الوطواط وسوبرمان والرجل العنكبوت. لسبب ما لم أكن مولعًا جدًا بالأبطال الجبابرة الذين يضعون أقنعة ويطيرون، لكنني وقعت في غرام دونالد داك كأي واحد آخر.

جاءت (تان تان) لتعزف بالضبط على النغمة المناسبة لروحي، وأعتقد أن هناك جيلًا كاملًا يدعى جيل (تان تان). كانت المجلة فاخرة الطباعة بمقاييس السبعينات، وكانت باهظة الثمن.. عشرة قروش لم تكن زهيدة بينما أغلى مجلة أطفال لا يتجاوز ثمنها ثلاثة قروش.. لهذا خضت معارك دائمة لأبرهن لأهلي على أن التضحية تستحق. أبي فقط كان يعرف أهمية هذه المجلة لي، بينما كانت أمي ترى أن هذا هراء وأن عشرة قروش يمكنها أن تشتري عشرات الأشياء الأكثر أهمية. 

(تان تان) المجلة البلجيكية التي ينشرها (لومبارد)، والتي كانت الثقب الذي نفذت منه الثقافة الفرنكوفونية لنا. بطل المجلة الذي أعطاها اسمه هو الصحفي الشاب (تان تان) وصديقه القبطان (هادوك)، والتي رسمها الفنان (ريمي هيرجيه) وكانت قصصه ممتعة لكنها نادرة جدًا.

……………

رحلة لا توصف بين الأزمان والبلدان.. مع (تان تان) عشت في عصر الغال ومع الرومان وأيام الحرب العالمية وأيام تحريم الخمور في أمريكا.. سافرت لبلدان قصية جدًا في الشرق حيث رأيت حانات قذرة لا يجسر أحد على دخولها، وعشت مع الهنود الحمر، وذهبت للهند لأواجه جيوش المغول مع (كورانتان).. هبطت على القمر مع (دان كوبر) ثم مضيت في شوارع اليابان لأزور مسرح (النو) مع (مورتيمر).. عشت في عصور ما قبل التاريخ القاسية مع (تونغا) وعشت في أزمنة مستقبلية غير محددة مع (داني المستقبل).. عشت في الريف الإنكليزي مع سادته المتحفظين ومفتشي سكوتلانديارد المتقاعدين.. وخضت حروبًا كثيرة في العصور الوسطى.

يخيل لي أن هذه المجلة ارتادت كل الأفكار الممكنة وأن كل فكرة قد سبق أن نشرت هناك.  

صحيح أن كلمة (يتبع) في نهاية القصة كانت تثير جنوني.. عليك الانتظار أسبوعًا هو الدهر ذاته حتى تعرف ما حدث.. لكنك في النهاية تقدر على جمع أعداد القصة كلها وقراءتها كاملة. 

جاء اليوم المفجع الذي أعلنت فيه المجلة أنها ستتوقف.. لقد انتهى ضخ الأحلام لأن السوق العربية قد أغلقت بعد (كامب ديفيد). توقفت المجلة ثم ظهرت في محاولة خجول بلا ألوان وبسعر فادح لا يمكن تصديقه (أربعون قرشًا)، ثم توقفت نهائيًا بعد ذلك.

كنا نحن جيل (تان تان) بلا مراء، ولا شك في أن أي سيناريو قصص مصورة كتبته في حياتي يحمل بصمة منها. أما عن التهمة الدائمة لها بأنها خنجر الثقافة الفرانكفونية المصوب لصدورنا، فرأيي أنها كانت تمر عبر مرشح مصري مخلص اسمه (الأهرام) حيث يتم استبعاد القصص غير المناسبة لثقافتنا، ولا أذكر أن أي جاسوس قبض عليه كان من قراء (تان تان). تذكر أن القيم الأمريكية تملأ مجلات ميكي وسوبرمان وسبايدرمان.. تذكر أنه لا توجد علاقة أبوة بين أي من أبطال ميكي، وتذكر أن دونالد داك لا يكف عن محاولة مواعدة (ديزي) البطة الفاتنة.

كانت (تان تان) نافذة فتحت لنطل منها على ما يفكر فيه العالم، ولا أرى أن هذه النافذة كانت مضرة بأي شكل، لكن هناك دلائل عدة توحي لي بأنها بعيدة تمامًا عن ذوق شباب اليوم، وقد فشلت عدة محاولات لإحيائها.. ربما تغير الشباب أو ربما التجربة لم تأخذ فرصتها الكاملة.. لا أدري.. لكني أعرف أنني أقتني كل عدد صدر من هذه المجلة، وأعرف كذلك أنها لو عادت للصدور اليوم لعدت لشرائها بلا تردد لأنها جزء حقيقي بالغ الأهمية من ذاتي.

أكمل القراءة
انقر للتعليق

اترك تعليقا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

جلـ ... منار

موجات

نشرت

في

وفاء سلطان:

مضى على وجودي في أمريكا 36 سنة.

لم أدخل يوما مطعما إلا وتركت للنادلة بخشيشا يفرح قلبها وفوق تصورها.

وفاء سلطان

معظم الذين يخدمون بالمطاعم في أمريكا هم طلاب جامعات ليسدوا مصروفهم، فلقد اشتغل أولادي في المطاعم أثناء جامعاتهم وأعرف كم كان البخشيش هاما بالنسبة لهم.

إلا البارحة قررت أن لا أترك لها سنتا، لكن زوجي رفض القرار وقال كعادته: حرام!

(نعم هو ألطف مني في هكذا مواقف)

أوقح نادلة رأيتها في حياتي، تخبط الصحون على الطاولة وكأنها خرجت لتوها من معركة مع زوجة أبيها.

ضبطت أعصابي بشق الأنفس

لقد اعتدنا ان نفتح حديثا مع من يخدمنا في المطاعم حتى نعرف حياته من ألفها إلى يائها،

ولكن هذه النادلة لم تترك لنا مجالا لنقول: شكرا!

نحن نذهب إلى المطعم ليس من أجل الأكل فقط، بل لتغير الجو وتحسين النفسية، وعندما تقارب الفاتورة المائة دولار وتلقى هكذا معاملة تصاب بالإحباط

حسب رأيي خدمة الزبائن في أمريكا أفضل من أي بلد في العالم زرته، ولنفس السبب لم أحب دول أوروبا!

القاعدة العامة في أمريكا تقول: يجب أن تتعامل مع الزبون كما لو كان دوما على حق!

لو كانت ابنتي محلي لقالت: ماما ارجوكِ سامحيها، لا أحد يعرف كيف كان يومها

هذا صحيح، ولكن على من يشتغل في المرافق العامة وخصوصا المطاعم أن يكون لطيفا تحت أي ظرف!

الحياة لا تعاش إلا ببعض التنازلات، وعندما يتعلق الأمر بعملك يجب ان تتمتع ببعض القدرة على إخفاء آلامك الشخصية ولا تنقل طاقتك السلبية لغيرك!

طاقة كل إنسان تشدّ أو تحجب عنه رزقه، وذلك حسب طبيعتها

كنا ندفع على الأقل 20٪؜ من قيمة الفاتورة، لكن بعد تراشق بالنيران وشد شعر ترك لها زوجي مبلغا، وأنا أتمتم: يا خسارة

فالسلوك الذي يُكافأ يتكرر!

أكمل القراءة

جلـ ... منار

أناقة ما بعد السبعين

نشرت

في

وفاء سلطان:

في الثمانينات من عمرها.

أحنى الزمن ظهرها قليلا، لكن روحها مازالت تعانق السماء.

وفاء سلطان

التقينا في المكان المخصص لعربات التسويق على باب أحد المحلات.

وبينما هي تسحب عربتها التقت عيوننا فصبّحت علي.

رددت التحية، وتابعت: تبدين جميلة جدا، إذ من النادر أن ألتقي بامرأة بهذه الأناقة والترتيب!

فعلا الحياة الأمريكية العملية أنستنا الكثير من أصول الأناقة والتزين.

إلى حد ما، تعجبني هذه العفوية في أمريكا،

فلقد خففت عنا نحن النساء مهمة التبرج كل صباح، وزادت ثقتنا بأنفسنا.

لكن من ناحية أخرى، من الجميل أن نحافظ على أناقتنا ومظهرنا طالما لا نبالغ

نعم لا نبالغ، فلقد أصبحت الكثيرات من النساء اليوم نسخا متكررة من لعبة باربي:

قشرة من الخارج وفراغ من الداخل

المهم، أشرقت ابتسامتها حتى أضاءت وجهها المهندس بطريقة فنية غير مبتذلة، وقالت بعد أن وضعت يدها على كتفي:

حبيبتي كل سلوك تتقنينه عادة، فمتى تعلمتِ عادة تصبح طريقة حياة

ثم تابعت:

منذ سنوات مراهقتي لا أخرج من البيت حتى أتأكد من أنني أسر الناظر إليّ، فمظهرنا الخارجي يعطي الانطباع الأول

أكدت لها أنها فلسفتي كذلك، وتمنيت لها يوما جميلا

أكمل القراءة

جلـ ... منار

من عياش إلى السنوار… “دوري” الإرهاب الصهيوني

نشرت

في

صبحي حديدي:

اللجوء إلى منهجيات المقارنة يقتضي، بادئ ذي بدء ربما، اعتماد درجة الحدّ الأدنى من التكافؤ أو التناظر تارة، والتفاوت والتنافر تارة أخرى، بين مقارَن وآخر؛ الأمر الذي تتضاعف اشتراطاته، ومشاقّه استطراداً،

صبحي حديدي

إذا كانت المقارنات تخصّ البشر عموماً، وفي ميادين مثل الأخلاق والنفس والسياسة والعقيدة خاصة. فليس من اليسير، في يقين هذه السطور، وضع قياديي “حماس”، ممّن استهدفتهم آلة الإرهاب الإسرائيلية في مواقع شتى وسياقات زمنية وسياسية مختلفة، على محكّ تقييمٍ مقارَن واحد أو متماثل؛ حتى إذا كان تسويغ هذا الخيار ينطلق من مبدأ المساواة، ضمن معايير سياسية أو عسكرية أو إيديولوجية، إيجابية أو سلبية، متَّفق عليها أو محلّ اختلاف. وحتى، أيضاً وربما قبلئذ، إذا ارتكزت المقارنات على مسلّمة ابتدائية وناظمة تضعهم، أجمعين، في خانة مقاومي كيان استعماري عنصري استيطاني فاشي المكوّنات وأبارتيديّ المسارات.

ثمة، بذلك، مقادير متقاطعة عليا من التكافؤ في مصائر الاستهداف الإسرائيلي لأمثال يحيى عياش (المهندس) والشيخ أحمد ياسين وصلاح شحادة وعبد العزيز الرنتيسي وسعيد صيام وصالح العاروري وجميلة الشنطي وإسماعيل هنية ويحيى السنوار؛ وثمة أيضاً، وفي المقابل الموضوعي أو الضروري، مقادير متقاطعة دنيا من التباينات الناجمة أصلاً عن الوظائف والدلالات والمصائر. طرائق النَيْل من المهندس أو السنوار، ليست مثل اغتيال الشيخ ياسين (قعيد الشيخوخة) أو هنية (النائم في فراشه)، والفارق لا يخفى بصدد الآخرين.

غير منتفاة بالتالي، بل هي ضرورة سياسية ومبدئية، مسألة التشديد على قاسم مشترك أوّل هو إرهاب الدولة الإسرائيلي بوصفه شكل تنفيذ هذه الاغتيالات، وإرهاب الدولة الصهيوني بوصفه المضمون العقائدي الذي يحرّك الدوافع من قلب “فلسفة” عتيقة ترى في الفلسطينيّ تهديداً وجودياً في ذاته وبذاته. وأياً كانت تفاعلات الشكل مع المضمون فإنّ توحّش إرهاب الدولة يلجأ، دون إبطاء، إلى إخراج الجغرافيا من المعادلة: “المهندس” ابن سلفيت في الضفة الغربية، متساوٍ مع السنوار سليل مجدل عسقلان المحتلة سنة 1948، وكلا الفلسطينييَن في خانة واحدة مع محمد الزواري… التونسي!

وليس عجباً أنّ الليكودي أرييل شارون كان مهندس اغتيال الشيخ ياسين؛ و”حكيم” حزب العمل، شمعون بيريس، كان الآمر باغتيال عياش؛ والليكودي الثاني نتنياهو كان على رأس حكومة الاحتلال يوم استشهاد السنوار. وليس من باب العجائب أنّ الثلاثة كانوا مجرمي حرب بامتياز، كلٌّ على طريقته وأفانين إجرامه، وأنّ تكوين دولة الاحتلال ظلّ ينحطّ من هاوية عنصرية إلى أخرى فاشية.

والحال أنّ منهجيات المقارنة الكلاسيكية ذاتها قد تعيد إنتاج مواضعاتها المألوفة، بين ماضي 1996 وحاضر 2024، على أصعدة حاسمة تخصّ ما هو عميق ومحوري في معمار “حماس” السياسي والعسكري والعقائدي. ذلك لأنّ أغراض الاحتلال من وراء اغتيال “المهندس” انقلبت ضدّها حين أفقدت قيادات “حماس” بعض ذرائع الاعتدال، وانتظار استكمال الانتخابات بوصفها الاستحقاق السياسي الفلسطيني الأبرز في ذلك الطور، وأفسحت المجال أمام انعتاق الحرج الآخر الذي كان يكبّل فصائل عز الدين القسام ويشلّ عملياتها.
وليس استشهاد السنوار ببعيدٍ، اليوم، عن منطق تطوّر مماثل تُضاف إليه اعتبارات عديدة فرضتها سيرورات “طوفان الأقصى” وحرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ قطاع غزّة؛ إذْ قد يقبل امرؤ أنّ غياب السنوار عن المشهد الميداني في قلب المعركة المفتوحة يمكن أن يوجع المقاومة، وقد يساجل امرؤ آخر بأنّ الغياب ذاته قد يكون عتبة الوثوب إلى مراحل انتقال ليست أقلّ استكمالاً لتلك التي دأب عليها القائد الغائب.

“دَوْري” إرهاب الدولة الصهيوني تتعاقب فصوله، إذن، ولكن ليس من دون تبدّلات تقلب السحر على الساحر الإسرائيلي؛ كأنْ يفوّت السنوار على الكيان فرصة “اقتناص” على شاكلة شيخ في كرسيّ متحرّك، أو قيادي نائم في فراش.

ـ عن “القدس العربي” ـ

أكمل القراءة

صن نار