…منذ النصف الثاني من القرن العشرين اكتشف الإنسان مصادر جبارة للحصول على الطاقة غير تلك المستمدة من عملية التمثيل الضوئي النباتي. بداية كان شطر الذرات الثقيلة كاليورانيوم ثم ادماج الذرات الخفيفة كالهيدروجين (والد كافة العناصر الكيميائية) في محاكاة لنشأة المادة المتنوعة في هذا الكون اللامتناهي مصحوبة بإطلاق طاقة هائلة.
<strong>أ د طالب أبو شرار <strong>
في مرحلة مراجعة المعرفة والتكنولوجيا، اكتشف الإنسان إمكانيات الحصول على الطاقة بوسائل أقل خطورة على سلامة الحياة بمجملها على كوكبنا. أهم تلك الوسائل كان في محاكاة الحياة النباتية في تحويل طاقة الإشعاع الشمسي الى طاقة كهربائية تسمى Photovoltaic أو طاقة كهروضوئية أو بالأدق طاقة كهروفوتونية. ها نحن ذا نقف على أعتاب مرحلة جديدة لأن تطوير مثل هذا المصدر سيفتح أمامنا أبواب آفاق لا حصر لها من مصادر للطاقة النظيفة الآمنة بل سيمكن من تغيير بيئة الحياة بمجملها في كوكبنا فكيف يكون ذلك؟ هنالك نظام شائع هذه الأيام هو النظام الشمسي الكهروفوتوني Solar) Photovoltaic) الذي يوفر كفاءة لاقتناص الطاقة الشمسية تتراوح بين 20-40% كما أن هناك تقنية أكثر تطورا وأكثر كفاءة من التقنية السابقة وتعرف بنظام الطاقة الشمسية المركزة (Concentrated Solar Power) وفوق هذه وتلك هناك تقنية واعدة تحاكي أسلوب اليخضور النباتي في اقتناص الطاقة الضوئية.
ولكي أوضح أهمية الطاقة الشمسية في مستقبل حياتنا، لنفترض أننا سنعمد الى أسلوب النظام الشمسي الحراري الأقل كفاءة في اقتناص الطاقة (20% فقط من الطاقة الضوئية) فإن تغطية نحو كيلومتر مربع واحد من سطح الأرض في معظم الأقطار العربية سيولد طاقة كهربائية لا تقل عن 50 ميجا واط ساعة أو بتعبير أدق 438 جيغا واط ساعة في السنة. الجميل في هذه التقنية أن العنصر المستخدم في الحصول على الكهرباء من الطاقة الشمسية هو السيليكون أي العنصر الأكثر شيوعا في تركيبات الصخور النارية وبالتالي الآمن بيئيا بشكل مطلق. والآن لنتخيل المنظومة التالية: ساحة كبيرة من مرايا الخلايا الكهروضوئية تغطي صحارينا المشمسة والشاسعة. ستحول تلك السطوح دون ارتفاع حرارة التربة الرملية لأن جزءا لا يستهان به من طاقة الإشعاع الشمسي سيتحول الى طاقة كهربائية أي أننا بزيادة المساحات المغطاة بالمرايا الشمسية سنغير حتما طقس المنطقة وربما مناخها.
سيكون من الممكن أيضا نقل تلك الطاقة الكهربائية الى أماكن بعيدة حيث تستثمر في شتى النشاطات الإنسانية كالاستهلاك المنزلي والعمليات الصناعية والتخزين في بطاريات السيارات والطائرات والسفن وما الى ذلك. المهم هنا أن جزءا من تلك الطاقة الكهربائية المستدامة يمكن استخدامه في تحلية مياه البحر بأسلوب التناضح العكسي المشار اليه. سيكون ممكنا استهلاك تلك المياه بشكل مباشر أو غير مباشر في كافة النشاطات الإنسانية بدءا من مياه الشرب وانتهاء بالتدوير لغايات الري الزراعي خاصة ري المناطق الصحراوية القاحلة. ستصبح التربة أسفل المرايا الشمسية أقل عدوانية تجاه الحياة النباتية، ومن ثم، يمكننا استزراعها بأشكال وأنماط تتواءم مع البيئة المستجدة.
في هذا الصدد، ستوفر تقنيات المرايا الشمسية استهلاك المياه الجوفية المستخرجة من المناطق الصحراوية. هذا الإجراء هو تحول أكثر أمانا بيئيا واقتصاديا إذ أن نقل المياه الجوفية من المناطق الصحراوية الى مناطق الاستهلاك الحضري هو أيضا عملية نقل غير واعية لبعض الملوثات البيئية الخطيرة كالملوحة والتلوث الإشعاعي الموثق في العديد من مصادر المياه الجوفية خاصة الملحية منها. ختام ترحال تلك الملوثات هو التربة الزراعية التي ستتأثر وستؤثر سلبا على المحاصيل المروية بتلك المياه. هذه الرؤيا ليست نتاج حلم بل هي استنطاق لمسيرة التطور الإنساني. ذات يوم ستصبح الصحاري المشمسة ذات فائدة حيوية للإنسانية تبز فوائد أجود الأراضي الزراعية.
وبعد، لا بد من الإشارة الى أن مساهماتنا العلمية والتكنولوجية نحن العرب هي في أدنى المستويات الإنسانية. نحن نستورد كافة مخرجات التكنولوجيا حتى من دول كانت الى وقت قريب مصدر عمالة رخيصة في بعض بلادنا العربية ثم انقلبت الموازين لتصبح بلادنا مصدرا للعمالة الرخيصة في بعض من تلك الدول. أتذكر في صباي كيف كانت هناك جالية يونانية كبيرة في الإسكندرية لم تكن من موروث استعماري كالجالية الفرنسية في الجزائر عقب الاستقلال. أتذكر أيضا كيف كان بعض الأسبان يعملون تجارا جوالين يحملون بضاعتهم على ظهور البغال ويجوبون قرى المغرب أو كيف تعاقدت شركة كورية لإنجاز مشروع بناء سلسلة من التجمعات السكنية في وادي الأردن في سبعينات القرن الماضي.
كان عاملوها مجرد متقاعدين عسكريين من الجيش الكوري الجنوبي يصطفون صبيحة كل يوم عمل في طابور منتظم كما لو كانوا على رأس عملهم السابق. هل يفكر أحد منا في استئجار مثل تلك العمالة بعد مرور أقل من خمسين عاما؟ ربما التمس عذرا لأبناء جلدتي الذين تقاعسوا عن اكتشاف طريق الأمم للنهوض الحضاري لكني لا أستطيع التفكير بأعذار تجيز لنا انتظار الفرج من الخارج عندما يدق الخطر الماحق أبوابنا في موضوع مصيري كندرة المياه. الماء شرط حيوي لكافة الأمور المصيرية بدءا من نوعية الحياة الإنسانية وانتهاء بمستلزمات الإنتاج الزراعي والصناعي والسياحي والحضاري.
ما العمل إذن؟ التخطيط العلمي المتأني من أجل تطوير مساهمة عربية إنسانية في المجالات السابقة يستدعي إنشاء مؤسسة عربية متينة والمتانة هنا تتمثل بالابتعاد عن كل الأمراض التي واكبت مشاريع العمل العربي المشترك من اقتسام الوظائف القومية قبليا (أي قطريا) لأي اعتبار واهِ يخرج عن منطق الأهلية العلمية الموثقة بمساهمات بحثية ابداعية منشورة في مجلات علمية عالمية مرموقة. لا بد أيضا من اعتماد خطة مسبقة ومحددة المراحل زمنيا لتحقيق منجزات ملموسة على كافة الصعد المتفق عليها عند اعتماد استراتيجية تلك المؤسسة. هو منطق المساءلة الدورية التي لا بد منها لمكافأة أو لمعاقبة العاملين والتي لا بد من اعتمادهما بادئ ذي بدء إن أردنا الوصول الى غاياتنا. وصفة نجاح العمل المؤسسي ليست وصفة سحرية. هي موجودة لدى كافة المؤسسات الناجحة عالميا من أقصى الشرق الى أقصى الغرب. المطلوب فقط هو الصدق مع أنفسنا والولاء لمصيرنا المشترك فلعلنا نرى بعض الضوء في نهاية هذا النفق الطويل… الطويل…
رحم الله أبا الطيب المتنبي، حكيم هذه الأمة إذ يقول:
يخجل القلب من نعيك، ويضيق الحرف برثائك، تفيض المشاعر حزناً وصدمة إنّما لا يتّسع الفضاء الالكتروني لترجمتها.. تربّطت أصابعي عن النقر على لوحة الحروف واحترقت دموعي غزارة في المُقل.
غبت أيّها المتمرّد الأوّل يا من نفضت الغبار عن فكرنا لنستنير وبقينا جهالاً!
هذا المقال أوائل البدايات فيالصحافة كتبته في 2018 وكان من أجمل ما كتبت لأجمل من عنه كتبت
تأثّرت بك وانتظرت عودتك لأعاصر شيئاً من فنّك الأسطوري.
كان مقالي حلماً جميلاً لكنّك رحلت دونما وداع كما أعزّ أحبّائي.
ثقُل كأس الموت يا تمّوز، حرقته لاذعة ترفض التروّي فمهلاً على المواجع
شخصٌ بمثابة الحلم تتمنّى إدراك حقيقته و سبر عمق أغواره، إلّا أنّك إن نلت شيئاً عنه تجد أنّك لا زلتَ على البرّ المربِك، الأكثر حيرةً.
لطالما تمنيّتُ أن أفهم من هو؟وكيف يُفكّر؟ ومن أين يأتِ لنا بكلّ تلك الحقائق الصادمة؟ السّاخرة والآخذة.
لِمَ هو بهذا التعقيد وتلك السلاسة في وقتٍ واحد؟!
كلّما صعُبَ عليك فهمه هان، و كلّما هانت كلماته استصعبت.
ذلك السّهلُ الممتنع ممتلئٌ بالشغف وكثير البرود، أستمعُ إلى حواراته القليلة جدّاً فأتمنّى أن أجد لتساؤلاتي أجوبة..
زياد الرّحباني اعترافات مشاكسة عمّا يجول في خاطره، يفاجِئُكَ ببساطة مفرداته وصعوبة تقبّلها في آن، حين يقول ” أنا مائة ألف شخصيّة فايتين ببعض” ويذهلك بحقيقةٍ أمرّ.
مضيفاً “بعد 5 دقائق من ولادتك رح يقرّروا دينك، جنسيتك، مذهبك، طائفتك، ورح تقضّي عمرك عم تدافع بغباء عن إشيا ما اخترتا”!! حتّى أنّه علّق وانتقد تغيير التوقيت حيث قال ساخراً:
” كل سنة بتقدموا السّاعة وبترجعوا لورا 10 سنين”.
هل هو بهذه العبقريّة التي يبدو عليها أم نحن بتنا جهالاً، لكثرة ما خذلتنا المعرفة في هذا الوطن الكئيب.
لماذا لا نرى ما يراه و نفقه ما يقوله، ونفكّر ولو قليلاً بنهجٍ يماثله؟!!
ليس زياد الرّحباني ذلك الموهوب، المؤلّف المسرحيّ أو الكاتب والملّحن الموسيقيّ فقط.
هو مَن لا تفوته فائتة في السياسة والأدب والفن والموسيقى والمجتمع ودائماً ما يُفصّلُ اعتراضات واتّهامات للجميع دون استثناء..
إنّه المشاكس الحذر، الصامت طويلاً ولكن إن حكى، أبكى التخلّف وأحبط مفاعيل الجهل، وصبَّ لينَ الزّيت على أفواه النار.
من هنا فإنّ المسرح اللّبناني في غياب زياد ناقصٌ وعند مستوى خطِّ الفقر!!
إلّا أنّه يغيب فجأةً وينقطع عن محبّيه عمراً. ليمنَّ علينا مؤخراً بعودةٍ خجولة أطلق فيها الوعد بالبقاء.
وها نحن هنا بعد سنوات من القطيعة المجحفة تلك، لا نُريدُ رحبانيّات متفرّقة، بل تتملّكنا رغبةٌ جامحة بلوحةٍ عنوانها فيروز وزياد الرحبّاني يغنيّان معاً، ويكسران كبرياء أفقٍ مثقّلٍ بانحطاط موسيقيّ!
ها هو المجنون العبقريُّ يحطّم صومعته ويُلقي علينا بسحر التراتيل.. بذكاءٍ فطري يضبطُ التوقيت الذي يراه مناسباً. مهما انتظرنا يبدو العناء مستحقّاً أمام جنون العظمة.
حين تدرك أنّ وحدَها النّسور من تغرّد خارج السّرب، وحين تقرّر تعود إلى أحضان فيروزها لتصبح الأغنية صلاة..
في زمن تتكاثر فيه الأقلام المتطفّلة على النقد الفني، وتختبئ وراء قناع “المحبة الصامتة” لتبثّ سمًّا باردًا في جسد الإبداع، يطلّ علينا مقالٌ “غير ودّي” عن حفل السيّدة ماجدة الرومي في “أعياد بيروت”، لا يحمل من الحسّ النقدي سوى مفردات طبية سطحية ومصطلحات صوتية غير واضحة أو مبررة ومبتورة السياق.
إن الحديث عن انتقال الصوت من طبقة الـ”Soprano Lyric” إلى “Mezzo-Soprano” أو حتى إلى “Alto” هو كلام صحيح علميًا من حيث التدرج الطبيعي لأي صوت بشري، لكنه يصبح مضللاً عندمايُطرح كأداة للطعن، لا كظاهرة بيولوجية طبيعية يعرفها كل دارس حقيقي لفسيولوجيا الصوت. فحتى مغنّيات الأوبرا العالميات ينتقلن تدريجيًا في طبقاتهن مع التقدم بالعمر، دون أن يُعتبر ذلك سقوطًا فنّيًا، بل نضجًا صوتيًا وإعادة تموضع ذكي للريپرتوار.
أما مصطلح “Tremolo” الذي استخدمته الكاتبة، (وليتها شرحت لنا نحن البسطاء اللي فهماتنا على قدنا معنى المصطلح الذي زودها به أحد المطرودين من حياة الماجدة) وهي استخدمته على عماها فأساءت فهمه على ما يبدو. فالـTremolo ليس عيبًا صوتيًا بالضرورة، بل أسلوب تعبير ديناميكي مقصود في الأداء، يُستخدم في الموسيقى الكلاسيكية والشرقية، ويُضفي بعدًا دراميًا على الجملة الغنائية، لا سيما في الأعمال العاطفية أو الإنسانية. لكنه يتحوّل إلى “اهتزاز غير إرادي” فقط في حالات مرضية مُثبتة طبيًا، وهو أمر لا ينطبق على الماجدة ولم تثبته أي جهة موثوقة في حالة السيدة ماجدة، بل استنتجته الكاتبة بإذن نقدية هاوية غير مؤهلة سريريًا أو أكاديميًا.وربما بأذن مستعارة ، من شخص ما !!
إن وصف الكورال بـ”العكّاز الصوتي” يعبّر عن جهل صارخ بوظيفة الكورال في الموسيقى الكلاسيكية والحديثة وكل الأغاني على حد سواء. الكورال ليس ترميمًا لعيوب، بل جزء أساسي من البنية الهارمونية، يعمل كدعامة جمالية وتعبيرية، سواء في موسيقى “باخ” أو أغاني فيروز أو إنتاجات اليوم الحديثة. حتى أم كلثوم ختمت حياتها الفنية بأغنية فيها كورال ومسجلة في الستوديو، وهي أغنية “حكم علينا الهوى”، فهل غرام بليغ حمدي بإضافة الكورال على أغلب ألحانه كان “عكازاً” لوردة وعبد الحليم وكل من لحّن لهم؟ استخدام الكورال لا يعني ضعفًا بل انسجامًا مع شكل موسيقي راقٍ يسمّى “الهارموني الكورالي”.
أما التلميح إلى أن السيدة ماجدة الرومي “تصارع للبقاء”، فذاك تعبير درامي هابط يتنافى مع اللياقات كما مع حقيقة ما رأيناه وسمعناه: فنانة قديرة تتحكّم بمسرحها، تدير الفرقة بوعي موسيقي عالٍ، تؤدّي بجملةٍ صوتية مدروسة تحترم مساحة صوتها الحالية، وتوظّف إمكانياتها التقنية بإحساس رفيع دون أن تفرّط بكرامتها الفنّية. ذلك يسمّى في لغة الموسيقى “interpretative maturity” أي النضج التعبيري، وليس انهيارًا كما يحاول البعض التسويق له بلغة “فيسبوكية” مستهلكة.
وأخيرًا، المقارنة بين ماجدة وصباح وفيروز مضلّلة وغير دقيقة. فكل صوت حالة مستقلّة، وكل مدرسة غنائية تُقاس بمعايير مختلفة. وإن كانت فيروز قد اختارت الابتعاد، في مرحلة ما بعد السبعين ،فذاك قرار شخصي لا يُفرض كنموذج على الأخريات. لأن أم كلثوم ظلّت تغني حتى العقد الثامن من عمرها، وهي راعت كما هو معروف طبقاتها الصوتية منذ بلغت الستين من عمرها. وهذا ما ما فات كاتبة المقال ذكره.
نحن لا نصفّق من دون وعي، بل نُصغي بفهم. وما سمعناه من ماجدة في “أعياد بيروت” كان صوتًا لا يزال يُغنّي بروح تُحسن استخدام تقنيات الـVibrato Controlled، وتعرف متى تُمسك بالجملة ومتى تُسلمها للمرافقة الموسيقية، دون أن تفقد شخصيتها الأدائية.
السكوت الذي دعا إليه كاتب المقال باسم “المحبّة”، هو صمت الجاهلين. أما المحبّة الحقيقية، فهي أن نعرف الفرق بين الهبوط الصوتي، وبين إعادة توزيع القدرات وتكييف الأداء بما يليق بمقام الفنّ النبيل…
كان مثيرا ولافتا أن طرفي الحرب الإيرانية الإسرائيلية التي امتدت لـ(12) يوما، يعتبر نفسه منتصرا.
فور وقف إطلاق النار خرج الإيرانيون إلى شوارع وميادين طهران يحتفلون بالنصر، يرددون الهتافات، ويتعهدون بمواصلة القتال في جولات أخرى.
بذات التوقيت، سادت التغطيات الإعلامية والسياسية الإسرائيلية نزعة انتصارية إجماعية.
ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” كلمة أطلق عليها “خطاب النصر”.
من الذي انتصر حقا؟!
أسوأ إجابة ممكنة إصدار الأحكام بالأهواء، وتنحية الحقائق جانبا.
إنها جولة في صراع طويل وممتد، تليها جولات أخرى بعد وقت أو آخر.
القضية الفلسطينية جوهر ذلك الصراع.
لم تكن من أعمال المصادفات عودة الزخم مرة أخرى إلى ميادين القتال في غزة فور وقف إطلاق النار على الجبهة الإيرانية.
“حان وقت التركيز على غزة لإنهاء حكم حماس واستعادة الرهائن”.
كان ذلك تصريحا كاشفا للحقائق، أطلقه رئيس الأركان الإسرائيلي “إيال زامير” في ذروة دعايات النصر.
إنهما حرب واحدة.
هكذا بكل وضوح.
أكدت المقاومة الفلسطينية المعنى نفسه في عملية مركبة بخان يونس، أوقعت أعدادا كبيرة من القتلى والمصابين، وأثارت الفزع في صفوف الجيش الإسرائيلي.
لا يمكن إنكار مدى الضرر الفادح، الذي لحق بالمشروع النووي الإيراني، جراء استهدافه بغارات إسرائيلية وأمريكية مكثفة ومتتالية.
هذه حقيقة.. لكنه يستحيل تماما أي زعم إنها قوضته، أو أن أمره انقضى.
لم يتمالك الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي انخرط بصورة مباشرة وغير مباشرة في الحرب على إيران، أعصابه فأخذ يكيل الشتائم المقزعة لمحطة “سي. إن. إن”، على خلفية تشكيكها في روايته.
“إنها حثالة”!
لم يكن لديه دليل قطعي أن العملية الأمريكية، التي استهدفت ثلاث منشآت نووية، “أصفهان” و”ناطنز” و”فوردو” الحصينة في أعماق الجبال، حققت أهدافها.
حسب تسريبات عديدة فإن السلطات الإيرانية نجحت في نقل اليورانيوم المخصب وأجهزة الطرد المركزية من تلك المنشآت قبل قصفها بقاذفات (B2) إلى أماكن أخرى آمنة.
التسريبات شبه مؤكدة بالنظر إلى عدم حدوث تسرب إشعاعي، أو تلوث بيئي إثر تلك الضربات، التي استخدمت فيها قنابل عملاقة لأول مرة.
يصعب التسليم بـ”الإنجازات” الإسرائيلية في ضرب المشروع النووي الإيراني دون فحص وتأكيد.
بقدر آخر فإنها لم تحقق نجاحا يذكر في تقويض المشروع الصاروخي الباليستي، الذي أثبت قوته التدميرية ودرجة تقدمه، التي ألزمت الإسرائيليين البقاء في الملاجئ لفترات طويلة.
قبل وقف إطلاق النار مباشرة بدت الضربة الصاروخية في بئر السبع، تأكيدا أخيرا على درجة عالية من الفشل الإسرائيلي في إضعاف القدرات الإيرانية.
ثم تبدى الفشل فادحا في طلب إثارة الفوضى بأنحاء البلاد، تفضي تداعياتها إلى الإطاحة بنظام الحكم.
بحقائق الجغرافيا والتاريخ والحضارة، إيران ليست دولة صغيرة أو عابرة.
إنها مع مصر وتركيا الركائز الكبرى في حسابات الإقليم، مهما جرى لها، أو طرأ عليها من متغيرات سياسية.
بقوة إرثها التاريخي تحركت الوطنية الإيرانية لرفض الاستسلام بلا شروط لـ”السلام عبر القوة” حسب تعبير “ترامب”.
تحت الخطر الوجودي توحدت إرادتها العامة، بغض النظر عن أية تحفظات على نظام الحكم.
كان المواطن الإيراني البطل الأول في التصدي لتغول القوة الأمريكية والإسرائيلية.
أبدى الإيرانيون قدرة لافتة على الإحلال في مراكز القيادة والسيطرة تحت أسوأ الظروف، بعدما نال العدوان من قيادات عسكرية وعلمية ذات وزن ثقيل في الضربة الافتتاحية.
في حرب الـ(12) يوما تبدى شيء من التعادل الاستراتيجي، الطرفان المتحاربان تبادلا الضربات الموجعة.
فرضت السلطات الإسرائيلية تكتما مشددا على حجم الأضرار التي لحقت ببنيتها التحتية والعسكرية؛ جراء الضربات الإيرانية، حتى لا يفضي النشر إلى زعزعة ثقة مواطنيها في قدرة جيشهم على المواجهة.
فاقت الخسائر الباهظة أية طاقة على الإفصاح، لا عرفنا عدد القتلى والمصابين، ولا ما هي بالضبط المواقع الاستراتيجية، التي استهدفت، ومدى الضرر الذي لحقها.
المعلومات المدققة من متطلبات إصدار الأحكام.
بصورة عامة تقارب الحقيقة فإننا أمام حالة “لا نصر ولا هزيمة”، غير أن إسرائيل يمكن أن توظف مجريات الحرب لإثارة اليأس من كسب أي معركة ولو بالنقاط.
بدا المشهد الختامي ملغما بالتساؤلات الحرجة.
وجه الإيرانيون ضربة رمزية لقاعدة “العديد” الأمريكية، لتأكيد حقهم في الرد على العمل العسكري الأمريكي داخل أراضيهم ضد ثلاث منشآت نووية.
أُبلِغت مسبقا السلطات القطرية باستهداف القاعدة القريبة من العاصمة الدوحة خشية ردات فعل سلبية.
نُقِلت إلى الأمريكيين فحوى الرسالة الإيرانية.
كان ذلك عملا احترازيا، حتى لا تفلت الحسابات، في وقت توشك فيه الحرب على الانتهاء.
وصفت الضربة الإيرانية بـ”التمثيلية”.
الأقرب للحقيقة، إنه سوء تقدير فادح، لم يكن له لزوم، أو ضرورة، أربك البيئة العربية العامة المتعاطفة مع إيران، كما لم يحدث من قبل.
أثارت الضربة الرمزية شكوكا وظلالا لا داعي لها.
بقوة الحقائق كانت الحرب على وشك أن تنتهي.
الخارجية الإيرانية تشترط وقف الهجوم الإسرائيلي قبل العودة إلى المفاوضات مرة أخرى.
والحكومة الإسرائيلية تطلب وقفا فوريا لإطلاق النار، تحت ضغط الترويع، الذي ضرب مواطنيها، إذا ما وافقت طهران.
الجانبان المتحاربان يطلبان لأسباب مختلفة وقف إطلاق نار.
هكذا توافرت أمام “ترامب” فرصة للتخلص من عبء الحرب على شعبيته.
لم تكن إسرائيل مستعدة لأي اعتراف، بأنها لم تحقق أهدافها من الحرب، لكن الحقائق وحدها تتكلم.