ما لم يفهمه بعضهم من هواة النعيق والتفاخر بثورة لم تحصل، هو أن كل دول ما بعد صاحب “البرويطة “، عاشت وتعيش وستعيش أزمات اقتصادية خانقة تتطلب بالضرورة تدخلا أجنبيا من أجل إعادة اعمارها، وهو ما سيجعلها تعيش حالة جديدة من التبعية قد تتواصل على مدى عقود، وقد تنتهي بفوضى أخرى لخلق نفس الوضع من أجل تبعية أخرى أعمق وأشرس من كل الحالات التي سبقتها، وهكذا حتى يوم الحشر…
فالغرب أو لنقل أمريكا ركزّت جهودها على أن تكون خسائر دول ثورات “البرويطة” كبيرة، بشكل يجعل كل الحكومات التي ستجلس على كراسي السلطة غير قادرة على تحمّل تبعاتها دون اللجوء إلى الغرب ومساعدة “الماما”…فالغرب يريد أن تعود كل دول المنطقة إلى نقطة الصفر من أجل أن تتواصل تبعيتها لها دون حاجة إلى استعمار جديد…و أمريكا ودول الغرب التي عوّلت على الاستعمار العسكري خلال قرون مضت اقتنعت أن الاستعمار الاقتصادي سيكون أقلّ تكلفة مادية وبشرية عليها…
والغريب أن الغرب وعلى رأسه أمريكا وضعوا مخططاتهم على أساس أن العالم العربي لا يزال يعيش تحت شريعة الطائفية والقبلية، فتجربتهم التي بدأوها في العراق أسقطت مفهوم الدولة في ظرف زمني وجيز، وهذا ما كان بعض قادة الغرب ينتظرونه من بقية الفوضى التي حركوها في بقية دول “ثورات البرويطة”، فما فعله الغرب منذ عشر سنوات في بعض دول المنطقة العربية، وقبل ذلك بما أتاه في العراق والشرق الأوسط هدفه اقتصادي ونفعي بحت، ولم يكن من أجل هدف إنساني وحقوقي، فالغرب لا يهمّه أن يُقتل أحدهم في تونس أو ليبيا أو مصر تحت التعذيب، ولا يهمه أن تمنع امرأة من سياقة سيارة في الرياض…
إن عَرَفَ المخطط الغربي نجاحا في بعض دول المنطقة كليبيا، والعراق، واليمن ونسبيا في سوريا، فإنه فشل فشلا ذريعا في تونس ومصر لسبب واحد وهو أن مفهوم المواطنة في هاتين الدولتين متقدّم جدا مقارنة بما هو عليه في بقية الدول العربية، فالطائفية أسقطت العراق وأزّمت الوضع في سوريا…والقبلية التي أسقطت ليبيا في مستنقع العنف، وجعلت من اليمن بؤرة للقتل والدمار لم تجد لها موطأ قدم في تونس ومصر …ويعود الفضل في إسقاط المخطط الغربي في تونس ومصر لتاريخهما السياسي…فبورقيبة يعود له فضل توحيد الأمة التونسية والقضاء على النزعة القبلية… ويعود الفضل في مصر لحكمة البعض من رجالاتها وزعمائها الذين لم يستسلموا لمصيرهم كما وقع مع بقية البلدان الموبوءة بالربيع العربي المزعوم…لذلك فبورقيبة يعتبر بالأمس واليوم الاستثناء التونسي السياسي الوحيد الذي أثر في الحياة السياسية في تونس حيّا وميتا رغم محاولات عديدة لتغييبه من تاريخ البلاد…
إن ما عاشه ويعيشه إلى يومنا هذا جزء من العالم العربي والإسلامي هو فقط اختبار لدرجة الحمق والغباء التي يعيشها كل عربي ومسلم…فنحن اليوم نمارس بكل غباء استراتيجية الفوضى الخلاّقة…ورغم أن العرب ليسوا هم أصل هذه الفوضى، لكنهم رضوا أن يكونوا أرضا وموطنا لهذه الفوضى الخلاّقة…وهم على بينة من أن الماما أمريكا هي من فرض ونشر وسوّق لهذه الفوضى، بدعواتها الكيدية للإصلاح الديمقراطي وكأنها بما تفعله تثبت أنها من يملك الوصفة السحرية للديمقراطية…فالماما بإيهامنا أنها تسعى لإصلاح بلادنا وبقية البلدان العربية تريد أن تخلق في أجساد امتنا أسباب تدخلها في شؤوننا ولو عن بعد أو بالوكالة أو بالمناولة، حتى تستفيد من ذلك اقتصاديا عبر سياسة تهدف إلى تنفيذ كل استراتيجياتها المستقبلية بالمنطقة…
ومشكلتنا الأصلية في كل ما يجري أن بعض حمقى وأغبياء هذه الأمة صدّقوا الإشاعة ورأوا في دعوات الماما للإصلاح الديمقراطي فرصة لهم ليمارسوا أفكارهم الفوضوية والتخريبية في جسد الأمة…وتعتبر كل معارضات الدول العربية التي أصابتها لعنة الربيع العربي المزعوم مجرّد أداة تنفيذ لمشروع أمريكي غربي يستهدف اقتصاد هذه البلدان وثرواتها الطبيعية، وهم من كانوا إلى زمن غير بعيد يصرخون طويلا رافضين كل مخططات الغرب والعم سام للتدخّل في شؤوننا…فمخطّط الماما يهدف أيضا إلى إضعاف دول المواجهة من أجل عيون مدللتها “إسرائيل”…
ولأننا أغبياء سقطنا في فخّ الماما ووجهنا بنادقنا إلى صدور إخوتنا في سوريا…وفي ليبيا …وفي اليمن…وفي مصر…وفي العراق…وفي كل شبر يسهل فيه امتلاك السلاح بأرخص الأثمان…فالماما تفطّنت لهشاشة إيماننا وترهّل تمسكنا بعقيدتنا الأصلية الخالية من التطرّف والتعصّب، فأيقظت في البعض منّا شيطان الاختلاف والفتنة والطائفية فأتت بدين جديد اسمه “الداعشية” …هكذا نحن بالأمس وهكذا بعضنا اليوم أصابنا الحمق في مقتل…ونسينا أن الماما هي من أوصل حكامنا سابقا إلى حيث كانوا، ثم أوعزت لبعض شعوبهم بالخروج عليهم بشعارات الإصلاح والتغيير بحجّة انتهاك من جعلتهم علينا حكاما لحقوق الإنسان وكأن للإنسان عند الماما معنى…هكذا نحن اليوم…وقد تتواصل مأساتنا إلى عقود أخرى…
لكن هل استوعب بعضنا الدرس أم لا يزال الحمق يغلبنا؟ هل جاءنا الربيع العربي بما وعدنا به؟ وهل تغيّر حالنا إلى أحسن حال أم غرقنا في وحل الفتنة والحقد والتطرّف؟ فهل نعيش اليوم حقّا تلك الديمقراطية التي سوّقوا كثيرا لها…؟ هل نحن فعلا اليوم بلدا ديمقراطيا يتساوى فيه الجميع أمام القانون؟ لا أظنّ أننا كذلك…ولا أظنّ أننا سنخرج سريعا من الوحل الذي غرقنا فيه… فاليوم حين تكتب عن أخطاء الحكومة يخرج عليك بعضكم ليقول أنك من زبانية ساكن قرطاج أو ساكن باردو…ويوم تغفل عن الكتابة عن أخطاء الحكومة سيخرج عليك بعضهم الآخر ليقول أنك أصبحت من مدّاحي ساكن القصبة…
لذلك أقول لبعض الأغبياء من الذين لوّثوا ويلوثون المشهد السياسي والإعلامي…لسنا مع أحد ولا ملكا لأحد ولا من أذيال أحد…ولا أحد منّا يلهث وراء حاجة أو هدف من خلال ما نكتب…فنحن نشكر يوم نرى شيئا بخير يذكر…ونلوم وننقد يوم نرى شيئا يلام عليه…وعلينا جميعا أن نعترف اليوم أن لا أحد منّا يعلم ما يدور في عقول البعض من هواة الصراخ…فنحن اليوم لا نفقه معنى كلمة “ديمقراطية” ولا نعرف عمق معانيها…فدولة يُهَرْسل فيها أصحاب القلم ويلاحقون في الشوارع بالسيارات…لا يمكن اعتبارها ديمقراطية…ودولة يحاول بعضهم منع بعضهم فيها من مسك القلم والكتابة…لا يمكن اعتبارها ديمقراطية….
دولة يلاحق فيها بعضهم قضائيا لغاية التدجين…لا يمكن أبدا اعتبارها ديمقراطية….ودولة يراد فيها منع أحد أفرادها من العمل والطموح السياسي…لا يمكن اعتبارها ديمقراطية…ودولة قادة معارضتها تجلس على كراسيها منذ عهد الإغريق…لا يمكن اعتبارها ديمقراطية…ودولة تعيش بشعار “العزري أقوى من سيدو”… لن تكون ولن تحلم أبدا بالديمقراطية…ودولة يمارس فيها بعضهم تصفية حساباته مع من لا يخضع لرغباته…لن تصنّف أبدا ديمقراطية…ودولة لا يقبل قادتها كلماتي هذه…لا علاقة لها بالديمقراطية….ودولة توفّر الحماية لمن ساهموا في تخريبها…لا يمكن تسميتها بالديمقراطية…الديمقراطية فعل وممارسة….فعن أي ديمقراطية تتحدثون؟؟؟ فنحن اليوم في دولة تصنع الإشاعة…لتصدّقها…فكيف صدّقتم أنكم تعيشون الديمقراطية؟؟؟ وأنتم تأتون عكسها؟؟؟
ورجاء والحديث للأغبياء الذين صدّقوا أن المغول والتتار والوندال دخلوا البلاد من أجل “دمقرطتها”…وأنهم يحملون رسالة إنسانية…كفوا عن دغدغة مشاعرنا بترهاتكم وتخاريفكم، فالشعب يموت جوعا…وأنتم تفاخرون بحرية الصراخ والنباح…وطعن خصومكم بخناجر الخيانة والحقد…في الظهر…فمنذ متى كان جنكيز خان أو هولاكو ديمقراطيا؟؟