جور نار

من أجل مجلس أعلى لوقف نزيف التربية ويضمن حق الأغلبيات …

… قبل المجلس الأعلى الذي سيناقش المُقاربات والتمشيات !

نشرت

في

اخترقت ذهني مؤخّرا خلال حديث مع بعض الأصدقاء في لقاء حول “إصلاح التعليم في تونس” فكرة أن من يبتهجُ لمجلس أعلى للتربية ويُناقش بنوع من الترف والتنعّم أيّ المقاربات البيداغوجية أنفعْ لمنظومتنا التربوية وأي الكفايات والتمشيات أنجعْ، دون التفكير المتيقّظ في التوجه سريعا وبكل ما أُوتينا من قوّة إرادة وطنية نحو تحديد عدد صغير من الأولويّات العاجلة … هو كمن يُعاين مشدوها شخصا عزيزا عليه ينزف بغزارة ولا يُبادر بفعل أيّ شيء في انتظار إجراء كشف طبّي شامل وانتظار نتائجه وتجمّع كامل الفريق من كبار الأطبّاء ليرسموا بروتوكولا طبّيا متوسّط أو بعيد المدى لمُعالجة الأسباب العميقة التي أدّت إلى ذلك النزيف… بدلا من إيقاف النزيف أولا وعاجلا وإنقاذ حياة المُصاب قبل الشروع في مرحلة جديدة تستدعي التشخيصات الأساسية والعلاجات الضرورية المُستوجبة.

<strong>منصف الخميري<strong>

لا أعتقد أن هذه الصورة البلاغيّة تُبالغ في توصيف الوضع الراهن الذي تعيشه مدرستنا ومراكز تكويننا وجامعاتنا التونسية لأن مستويات تراجع أداء المرفق المدرسي العام وتردّي مُخرجاته بلغت درجات مُخيفة، وسأدفع في هذه الورقة بأدلّتي الملموسة المؤكّدة لكوننا نشهد اليوم نزيفا حقيقيا تذهب ضحيّته أجيال بكاملها وتتبدّد بموجبه طاقات وطنية ثمينة وتتعمّق جرّاءه الشروخ الرهيبة الموجعة بين الجهات والفئات والأجيال.

ولا غرابة في نظري أن يُراهن أغلب التونسيين على مُخرجات الاستشارة الوطنية للتربية والتعليم وعلى فكرة بعث المجلس الأعلى للتربية والتكوين والتعليم العالي، وما قد يعقُب ذلك من خطوات عملية على طريق إصلاح مدرستنا التونسية (بمفهومها الشامل، أي على معنى كونها حاضنة وطنية للتنشئة الأساسية والمهارية والمعرفية في مستويات أكاديمية وبحثية عالية) لأنه لا ملاذات واقية أخرى بديلة لديهم. ولا يمكنني شخصيا إلا أن أكون من ضمن أولئك المُندّدين بسُبات الدولة والمُنادين منذ عديد السنوات وبإلحاح شديد بضرورة فعل شيء مَا (أيّ شيء أيها الخاملون) يُعيد عقارب الساعة إلى سالف اشتغالها قبل فوات الأوان وإحالتنا نهائيا على هامش الزمن العالمي.

لكن كل مجتمعات الدنيا جرّبت الإصلاحات التربوية “الشاملة والعميقة والجوهرية” قبل أن تقف في النهاية على حقيقة أن النهايات الإيجابية الكبرى تنطلق دائما من بدايات جُزئية لا يختلف حول وجاهتها عاقلان، وأن الإصلاحات العظمى تبدأ من جراحات موضعيّة يتطلبّها إيقاف الهدر المُريع، وأن التهرّم والانخرام عندما  يتمكّنان من كامل جسم المنظومة يتعيّن تحديد أولويّات بارزة يُباشر الاعتناء بها فورا… في انتظار فتح الملفات التي تقبل الانتظار.

فعندما :

تبلغ نسبة الالتحاق بالتعليم العالي الخاصة قرابة الـ 15 % وهي نسبة متزايدة سنويا (73 مؤسسة تعليم عال خاص حاليّا مقابل 203 عمومي، و38 ألف طالب في الجامعات الخاصة مقابل 232 ألف طالب في العمومي). ومن العوامل التي قد تفسّر هذا “الانفجار” في فقاعة هذا القطاع نذكر انعدام ثقة شريحة واسعة من العائلات التونسية في مسارات جامعية عمومية لم تعد تستجيب لا إلى ملامح المُحرزين على الباكالوريا المتنامية، ولا إلى ما تتطلّبه سوق الشغل من مهارات دقيقة وتكوين أكاديمي عالي الجودة. كما يؤشّر هذا التحوّل العميق في خارطة التعليم العالي في تونس على أنه أصبحت لدينا منظومة تعليمية بسُرعتين متباعدتين : سُرعة خاصة بالطرقات السيّارة لأبناء العائلات الميسورة، وسُرعة حلزونية مُتاحة لأبناء العائلات المقهورة. أقول هذا مع تسجيل استثناء يتعلق ببعض المسارات الجامعية العمومية التي مازالت قادرة على تأمين تكوين جيد للغاية، إلا أنها وبحكم حدّة التنافس على ولوجها بعد الباكالوريا، فقد ظلّت حِكرا على أصحاب المعدّلات العالية التي لا تلينُ بصورة عامة إلا للقادرين على الاستثمار في الشحن المدرسي وتعاطي المنشّطات…

وعندما :

يقتصر الانتماء إلى مؤسسة جامعية “انتقائية جدا ومُوفّرة لإمكانيات كبيرة في الاندماج والتكوين بالتداول” مثل المعهد العالي للإعلامية بتونس المنار على الحائزين على الباكالوريا من 5 ولايات فقط مقابل صفر مقاعد لباقي الولايات بدعوى أن هذه الأخيرة حاضنة لمؤسسات جامعية شبيهة بإيزي المنار وبالتالي لا يتمتّع أبناؤها بنقاط آليّة التنفيل الجغرافي الجائرة وغير العادلة في مجموعهم فيعجزون عن دخول هذه المؤسسة، والحال أن مستوى التكوين في الولايات الداخلية في مجالات الإعلامية وتطبيقاتها لا علاقة له لا من بعيد ولا من قريب بما يُدرّس داخل بعض مؤسسات العاصمة…

وعندما :

تستحوذ أربع ولايات فقط سنة 2023 على 72%  من طاقة الاستيعاب الجملية لمؤسسة عريقة مثل كلية العلوم القانونية بأريانة …

وعندما:

يتعيّن على 15 ولاية تجميع كل نُجبائها ونجيباتها لتصل إلى مستوى ولاية واحدة من حيث عدد الذين توصّلوا إلى افتكاك موقع في معهد تونس للأعمال المعروف بانتقائيته الشديدة واتساع آفاق الاندماج أمام المتخرجين من صفوفه…

وعندما :

يُحرم أبناء ولايات بأكملها من الظفر ولو بمقعد يتيم في عديد المؤسسات مثل كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان والأقسام التحضيرية للدراسات الهندسية باهظة المجموع المطلوب وبعض مؤسسات التصرف والتجارة…

وعندما:

تتخصّص الولايات الفقيرة باحتضان شعبة الآداب وشعبة الاقتصاد والتصرف، وبعض المعاهد الثانوية في الجهات الأخرى بإيواء الشعب العلمية وانعكاس ذلك على جودة التخرّج بعد الباكالوريا ونصيب الجهات الداخلية من الكفاءات العالية (طبيا وهندسيا وخدميّا وتنمويّا…) بعد التخرّج من الجامعة…

وعندما:

يكاد ينعدم تدريس اللغات الأجنبية في بعض مدارسنا ومعاهدنا (بالإضافة إلى الإعراض عن اللغة العربية فذلك أمر حزين مفروغ منه) ويصل عدد التلاميذ المتحصلين في الباكالوريا على أعداد هزيلة ومُخزية في هذا المجال إلى عشرات الآلاف ويصل آلاف تلاميذ الابتدائي إلى مستوى المرحلة الإعدادية بصفر مكتسبات أساسية ويُزجُّ بهم رغم أنوفهم في مسار عملاق … فيكدحون ويتعثّرون وتُعتقل ألسنتهم ويتلعثمون وتزلّ أقدامهم…

وعندما :

لا يتبقّى شاب تونسي واحد لم يضع جميع أحلامه وطموحاته ومشاريع مستقبله في قارب الهجرة الموعودة…أو سفنها وطائراتها…

 و”عندمات” أخرى كثيرة ومتنوّعة !

عندما تتجمّع كل المؤشرات المُخيّبة ومع كل مؤشّر تتعاظم جمهرة المتروكين لحالهم بعد أن لفظهم حضن لم يعرف كيف يشدّهم إليه ويمضي بهم إلى ما به يحفظون كرامتهم ويحققون سعادتهم، وعندما تتسرّب المياه إلى داخل السفينة وتكثر ثُقوبها وشقوقها، يتحتّم على جميع المُبحرين التوقّف لبعض اللحظات (لا لبعض العقود كما تفعل دولتنا الأبيّة) حتى لا تعمّ الفوضى والذّعر والخبط العشوائي في كل الاتجاهات دون فائدة…من أجل رصد ما يتوفّر من إمكانيات وتحديد أهم الثقوب الواجب سدّها واختراق العاصفة بأخف ما يمكن من أضرار… قبل أن تحلّ ساعة الاستقرار والرّجاحة وتنطلق عمليات الإصلاح الثابت والمتماسك والمُستدام.

تعليق واحد

صن نار

Exit mobile version