لمْسُ نار

من بلد الفرح الدّائم … إلى بلد التسوّل الدّائم !

نشرت

في

Pauvreté images vectorielles, Pauvreté vecteurs libres de droits |  Depositphotos

يا مادام بربي اشري من عندي ها الباكو … يا مسيو عيشك عاوني حتى بحق خبزة … عائلة سورية في حاجة إلى مساعدة … بربي كمّل لي حق الركوب … خرجت من السبيطار و ما عنديش باش نشري الدواء…”

<strong>عبير عميش<strong>

تتعدّد النماذج و التسوّل واحد .. تسوّل مباشر و تسوّل مقنّع … هذه الظاهرة تفاقمت في بلادنا في السنوات الأخيرة و بحّت حناجر المواطنين والمدونين و الإعلاميين و هم يتوسّلون إلى الدّولة و يتسوّلون منها حلّا لمعالجة هذه الصورة التي “تتزين” بها مفترقات شوارعنا الرئيسية و حتى أنهجنا الفرعيّة في كل المدن، و صار يلاحظها القاصي و الدّاني و باتت تشكّل مشهدا مشينا في بلد اعتقد سكانه يوما ما  أنّ هذه المشاهد تكاد تنعدم لديهم، و  أنهم أفضل من باقي دول العالم الثالث  … فبعد أن كنّا نسوّق أنفسنا للعالم باعتبارنا بلد الفرح الدّائم صرنا نخشى بأن ننعت بأنّنا بلد التسوّل الدائم ..

لم يعد التسوّل في بلادنا حكرا على المواطنين بل هو سياسة دولة بامتياز … فنحن شعب يعيش على القروض و الهبات و لم يتحسّن وضعنا الصحّي و لم تتوفّر التلاقيح لأبناء الشعب إلا بعد ما حصل ما يطلق عليه رئيسنا “هبّة البلدان الشقيقة و الصديقة” التي تداعت لإنقاذنا من الفناء بعد أن كادت منظومتنا الصحية تنهار في بداية صائفة 2021 … و حتى بعد أن صدّق البعض أننا سنستغني عن القروض و لن نهتمّ لتصنيفات المؤسسات المالية الدّولية ، ها أنّ  الحكومة عادت إلى التفاوض مع ممثلي صندوق النقد الدولي (مفاوضات سرّية لا يعرف الشعب و لا الفاعلون السياسيون و الاقتصاديون و الاجتماعيون شيئا عن فحواها باستثناء بعض التسريبات التي لا يمكن التعويل عليها تماما) و ها أنّ ميزانيّة الدّولة للسنة الحاليّة تُبنى على فرضيّة الحصول على قروض دوليّة بعد موافقة الصناديق المانحة

و في انتظار ذلك و أمام تفاقم عجز البلاد الاقتصادي جاء بيان مفتي الجمهورية الذي يطلب فيه من رجال الأعمال التبرّع لمساعدة الدّولة (التي ساهمت السياسات و الحكومات المتعاقبة عليها  منذ ما قبل 2011 وإلى يوم النّاس هذا في إفلاسها و انخرام توازناتها الماليّة) .. و قد استهجن أغلب المواطنين و المتفاعلين مع الشّأن العام بيان الاستجداء هذا و رأوا فيه مؤشرا من جملة مؤشرات أخرى (أهمّها تأخر رواتب الموظفين و عدم توفّر الرصيد الكافي في خزينة الدّولة لدفع الأجور) على إفلاس البلاد،  فاستقبلوا البيان بمسحة من السّخرية و ” التنبير” على عادة التونسيين في مزج الجدّ بالهزل و الهروب إلى النكتة عند مواجهة الأزمات .

 و بعيدا عن الردود الساخرة فإنّ تساؤلات عدّة طرحها صدور هذا البيان عن مفتي الجمهوريّة،  أبرزها الغاية من خلط الدّين بالسياسة في هذا التوقيت بالذّات ؟ خاصّة أنه هو نفسه يعتمد المرجعيات الدينيّة في نصّ البيان عندما يقول : ” في هذه الظروف الاقتصاديّة  و الاجتماعيّة الصعبة فإنّ وطنكم و هو وطن آبائكم وأجدادكم يدعوكم إلى أن تهبّوا إلى مواصلة البذل و العطاء إلى حين الخروج من أزمته و هو واجب أخلاقي وديني فالله تعالى يقول (و لا تنسوا الفضل بينكم) و يقول (و ما أنفقتم من شيء فهو يخلفه)  فالبذل والعطاء من أجل رفاهيّة شعبكم ليس تضحية و لا فداء و لا خسارة بل هي تجارة مع الله عزّ و جلّ لن تبور”

و ما علاقة المفتي بالحديث مباشرة في الوضع الاقتصادي خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار بيانه في شهر نوفمبر الماضي حول الفساد … فهل أصدر البيان من تلقاء نفسه  سيرا في ركاب السلطة و خدمة لتوجهات رئيس الجمهوريّة أم  دُفِع إلى ذلك دفعا ؟

و هل انتهت حلول الأرض بالنسبة إلى الحكومة لمواجهة الأزمة العاصفة و لم تبق أمامها إلا حلول السماء كما يعتقد البعض ؟

و في المقابل و بينما يستجدي مفتي الجمهوريّة أهل المال و رجال الأعمال لمساعدة البلاد، نجد أنّ رئيس الجمهوريّة ماض في مشروع الصلح الجزائي  الذي يريد إرساءه ـ و قد نادى به منذ سنة 2013 اعتمادا على القائمة التي أعدّها المرحوم عبد الفتاح عمرـ  و الذي حسب ما بلغنا من تسريبات أيضا أنه سينشئ من أجله محاكم استثنائية و يعيّن قضاة يعودون إليه بالنظر من أجل البت في قائمة الفاسدين و ناهبي أموال الشعب و الذين سيقع ترتيبهم في ما بعد ترتيبا تنازليا بحسب المبالغ المحكوم بها عليهم … ويتم ترتيب المعتمديات ترتيبا تنازليا من الأكثر فقرا إلى الأقل فقرا، ويتعهد كل محكوم عليه بإنجاز المشاريع التي يطالب بها الأهالي في كل معتمدية (طرق، مؤسسات استشفائية، مؤسسات تربوية…)

 فأين التناغم في التصريحات بين هياكل الدّولة ؟ هل سيطلب من أصحاب الأموال النّجدة و المساعدة أم سيقع إخضاعهم للتحقيق و المساءلة حول مصادر أموالهم ؟

إنّ تأزّم الوضع الاقتصادي في تونس لا يخفى على أحد يشعر به المواطن العاديّ دون حاجة إلى أرقام أو إحصائيات … إذ يلاحظه في فقدان مجموعة من الموادّ الأساسيّة أو الارتفاع المشط لأسعارها، و ينتبه إليه وهو يقف عاجزا عن اقتناء احتياجاته فلم تعد أجرته قادرة على تغطية نفقاته .. هذا لمن يعمل فما بالك بمن هو عاطل عن العمل …

و لكنّ الأرقام و التقارير تأتي لتؤكّد هذا الشعور و توضح أسبابه

حيث أنّ تونس تصنّف حسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي  – إلى جانب خمس  دول أخرى هي البيرو ، باناما ، فينيزويلا ، نيكاراغوا  و  لبنان – بكونها بلدا يعاني من مخاطر انهيار الدّولة و عدم قدرتها على إنجاز الإصلاحات اللازمة و تحسين الخدمات وتواصل الركود الاقتصادي و فقدان الموارد البشرية  و غياب الاستثمار بسبب فقدان الثقة

 و ينضاف إلى ذلك التقرير المتعلّق بالمنشآت العمومية الناشطة في القطاعات الإستراتيجية التي تتصرف فيها الدّولة  الصّادر مؤخرا، و الذي يُثبت بما لا يدعو للشك أن سيناريو انهيار الخدمات العمومية من تنوير وتزويد بالماء الصالح للشراب وبالمحروقات ونقل وخدمات صحية ليس ببعيد، في حال تواصل الحال على ما هو عليه

كما تؤكّد عديد المواقع أنّ ما يتوفّر في خزينة الدّولة حاليّا غير كاف إلا لتغطية ثلث أجور الموظفين و يتساءل المراقبون عن الآليات التي ستلجأ إليها الحكومة لتغطية هذا العجز في الأيام القليلة القادمة … هذه الحكومة التي لم نسمع لها صوتا منذ تعيينها قبل حوالي 100 يوم و لا نعرف عن أولوياتها شيئا غير ما يوجهها إليه رئيس الجمهورية، سواء في اجتماعاته الوزاريّة أو أثناء استقبال رئيستها التي يبدو أنّ كل جهودها و جهود الوزراء و الولاة معها منصبّة فقط على إنجاح الاستشارة الكترونيّة التي سيُمتِّن بها سعيّد أركان حكمه … وقد نسي الجميع أنّ الوضع الاقتصادي لم يعد يحتمل أي تأجيل و أنّ الشعب قد لا ينتظر نتيجة استشارتهم، و قد لا يصبر على اهتمامهم بالجوانب السياسية بدل البحث عن الحلول الاقتصادية التي تقيه شر الجوع والتسوّل .

انقر للتعليق

صن نار

Exit mobile version