تدور هذه الأيام الدورة 21 لمهرجان الأغنية التونسية … وهذا النوع من الأخبار يضطرّك إلى أن تعيد قراءة أعلى الصفحة للتثبت من تاريخ الجريدة والخبر في آن واحد … والسبب أسباب …
أوّلها اسم المهرجان ولقبه … كان اسمه فعلا مهرجان الأغنية ذات بدايات بعيدة، غير أن ذلك تغيّر أكثر من مرة مع كل وزير أو مدير أو حصير أو دنفير … الأغنية التونسية، الموسيقى التونسية، أيام قرطاج متاع الموزيكة إلخ … ومع تتالي العناوين تتالت السياسات بل الشطحات، ففي الأول كان حرّا طليقا، وبعد ذلك جاءت سنيا مبارك وبدل أن تمضي في التطوير والتنوير هبط عليها وحي سلفي تراثي لا يقرأ لا يكتب … فقررت أن يكون المقام حصرا لأولياء الموسيقى التونسية الصالحين، وأعلنت أن من ليس من مريدي المزموم والأصبعين لا يدخلن علينا … وأثبتت بالمناسبة البون الشاسع بين المتعلّم والمثقّف، وهي متعلمة جدّا هذا صحيح، أمّا كمثقّفة فـ …
السبب الثاني للاستغراب هو رقم الدورة وترتيبها … ما نتذكره جيدا أن المهرجان انطلق في ربيع 1987، يعني مرّت عليه ست وثلاثون سنة بالتمام والكمال، فلماذا وقف العدّاد عند الرقم 21؟ … وهنا نعود إلى مراحل الردح التي مرّ بها المهرجان، وتقاذُفِه كالكرة بين أرجل فنّانين لا علاقة لهم بالفن ولا بخدمة الفحم، بتعبير الخميسي … وهنا لا تستثني تقريبا أيّا منهم ومهما كانت السدة التي ارتقاها … مدير مهرجان أو مديرا فنيا أو رئيس لجنة أو وزير ثقافة … كلّهم أجرموا في حق المهرجان ومسخوه وفسخوه ونقلوا إليه عدوى وسطهم الموبوء والعامر بالطفيليات والأنانيات والدسائس والوشايات وما أكثر … على غرار ساحنا الإعلامي الذي عاضدهم في جهدهم التخريبي ذاك والحق يقال … ووافق شن طبقة …
الدورة الوحيدة التي تستحق أن توصف بأنها مهرجان فنّ وأغنية هي الدورة الأولى … دورة 87 التي كانت ذروة لنهوضنا الغنائي والثقافي زمن الثمانينات … حضر فيه أجْود من عندنا وما عندنا إنتاجا ومنتجين … صحابو، العيادي، رضا، العقربي، السديري، علاّم وغيرهم مع كل أصوات الساحة الخصبة وعازفيها المهرة … وفاز وسط ذهول الجميع ملحن شاب مغمور نسبيا هو رشيد يدعس بلحن “ثوريّ” يختصر عنفوان تلك المرحلة وتجديدها … وهنا وبدل أن يؤكد الفنانون أنهم فنانون حقا، يرعون الورد ويقطفون الجمال أينما وجدوه … بدل هذا، غلبت عليهم غرائز “العرابنية” التي تربّوا عليها … فراح كل واحد ينطر و يشنفر ويصرخ ويولول ويقلب الطاولة … وتبودل السباب والاتهامات، وخرجت أيمانات مغلّظة بأني لن أسكت ولن أسامح ولن أشارك مستقبلا … كل هذا لأجل مائة دينار زائدة أو مائتين !
من وقتها، ترنّحت البناية التي تعبت أجيال في إنشائها حجرا حجرا، وتقلّبت في قبورها أجساد ترنان والرياحي والجموسي وصليحة … و سارت التظاهرة مكسورة النفس شيئا فشيئا نحو العدم، نحو الفراغ … وأبت الطبيعة إلا أن تسدّ هذا الفراغ بوحش أتى بعد ذلك على الجميع حِمْلاٌ وحاملا … وحش الرداءة المطلقة الذي اتخذ شكل النوبة، والحضرة، والراب … واستقرّ على الصدور عشرات السنين إلى اليوم، إلى درجة لم يعد فيها لمهرجان الأغنية ذِكر، بعد أن كان موعدا جللا وحدثا مدوّيا، فصار يمرّ تقريبا مرور الكرام.