بالأمس طلعت علينا صفحة رئاسة الجمهورية بفيديو استقبال السيد الرئيس لأحد المواطنين، فأخذنا نتساءل عن معايير الاستقبال و كيفية اختيار المواطنين الذين يقابلهم الرئيس و يخصص لهم جزءا من وقته ووقت البلاد.
و راودتنا في الأثناء أحلام بمقابلته نحن أيضا في إطار العدالة و المساواة بين المواطنين فما الذي ينقصنا لتحقيق هذا الحلم مادام لسيادته من سعة الوقت وسعة الصدر ما يجعله قادرا على استقبال المواطنين الذين يريدون ذلك …لنكتشف أن المواطن الذي قابله رئيسنا ليس مواطنا عاديا بل هو مواطن فوق الرتبة ، هو مواطن “على راسه ريشة “كما نقول بالدارجة التونسية ، هو أحد قياديي الحملة التفسيرية للرئيس أي أنه من نفس درجة المواطنة زكية الأطرش منسقة حملته في قفصة التي استقبلها منذ أيام في القصر أيضا،
كما أن رئيسنا سبق أن زار هذا المواطن في بيته منذ أشهر ليقدم له واجب العزاء بعد وفاة زوجته. و قد كان هذا المواطن المميز، الذي سُمِح لنا بسماع صوته في الفيديو في سابقة اتصالية غريبة من نوعها مع ضيوف القصر، يحثّ الرئيس على مزيد الصرامة و الضرب على أيدي الفاسدين ويحرضه على استرجاع الأموال المنهوبة، و كأن قيس سعيد باستقباله له و سماحه له بالتفاعل معه يقول لنا هذا هو الشعب شعبي و هذا هو الذي أستمع إليه و أخاطبه،.. فالسيد الرئيس اعتمد منذ مدة أسلوب دغدغة مشاعر الشعب عبر عبارات من قبيل التجويع و الاحتكار و المضاربة والتفقير و الترويع و الجشع و التلاعب بقوت الشعب و موارده، و عبر المقارنة بين الأثرياء و الفقراء فصار كل ثري سارقا فاسدا و كل فقير منهوبا مسلوبا …
و هذا النوع من الخطاب يدغدغ مشاعر الناس و يستقطب العامة الذين يرون في السيد الرئيس ذي القبضة الحديدية و الكلمات النارية و الصواريخ الجاهزة، الرجل الذي سيخلصهم من الفساد الذي عشش في مفاصل الدولة و يعيد إليهم الأموال المنهوبة و الحقوق المسلوبة و لا أدري لماذا يقفز إلى ذهني كل مرّة خطاب جماعة ائتلاف الكرامة الذين استقطبوا الناخبين في 2019 بموّال استرجاع الثروات المنهوبة و توزيع حصص الشعب من البترول و الغاز و الملح، وكأن أبناء هذا الشعب يستمرئون العطالة و البطالة و الجلوس في المقاهي في انتظار الحصول على نصيبهم من ثروات البلاد و مقدراتها المخفية. و هو تصور لا يولي أية قيمة للعمل و االجتهاد بل يشجع على التواكل و الكسل ويجعل الفئات الفقيرة خاصة تعتقد أ ن أوضاعها ستتحسن بمجرد استرجاع هذه الثروات … و من منا لا يريد أن يرى بلاده تتخلص من هذا الأخطبوط الذي ينهب مقدرات الدولة و يستثمر في الأزمات فتزداد فئة قليلة غنى و ثراء في حين يزداد باقي الشعب جوعا و فقرا؟
لا أعتقد أنه يوجد وطني صادق يرفض تطهير الدولة من الفساد و لكن التحكم في الأسعار و التخفيض فيها في أي مجال من المجالات و مقاومة الفساد و القضاء على منظومة الفاسدين لا يمكن أن تكون بالمداهمات و التهديدات و لا حتى بإحضار ممثلين عن الهيئات المهنية إلى القصر و مطالبتهم بالتخفيض في الأسعار عبر التخفيض في هامش أرباحهم مرة بالوعد و مرات بالوعيد …
صرنا نشعر أن هذه التنقلات هي تنقلات استعراضية و أن هذه الخطابات النارية هي للتغطية على التردّد أو الفشل في تصور طريق واضح للخروج من مأزقين رئيسيبن و جد الرئيس نفسه فيهما :
مأزق إدارة مرحلة ما بعد 25 جويلية و قد تفطّن إلى صعوبة الإصلاح السريع المناسب لانتظارات أنصاره قبل مناوئيه، وحقيقة ضعف موارد الدولة بعد أن أمسك بالسلط الثلاث بين يديه،
و مأزق إعداد تصور واضح أو خطة عمل مرحلية بتسقيف زمني واضح تستجيب لرغبات المواطنين الذين خرجوا “مزمرين” مهللين ليلة 25 جويلية ومازال بعضهم يسير وراءه في زياراته إلى بعض المناطق مرددين ” بالروح بالدم نفديك يا رئيس”… و كأنهم لم يهتفوا بها قبله لبورقيبة أو لبن علي.. و كأنهم لن يرددوها لمن سيأتي بعده… و كأنه نسي أن فئة كبيرة من الشعب التونسي بارعة في ” التبندير” و أنها تكاد تحتكر كل أنواع ” الفارينة” لنفسها.
سيدي الرئيس، نحن و إن كنا ندرك أن إرادتك صادقة في القضاء على كل من ساهم في “تبريك” الدولة و التمعّش منها و إفلاسها و نساندك في رغبتك هذه، إلا أننا ندرك أيضا أن دواليب الدولة لا تدور بحسن النوايا و أنها تحتاج آليات ومبادرات مازلنا في انتظارها إلى اليوم.
إن المقاربة الجزائية وحدها لا يمكن أن تخلصنا من الفساد، فهل ستداهم بمفردك كل المخازن و كل المصانع و كل المؤسسات التي تشك في تورطها و هل ستصادر كل الأراضي و الممتلكات و تدرس كل الملفات بنفسك؟ إن هذا العمل هو من صميم اختصاص فرق التجارة و أعوان الرقابة إلا إذا قررت أن تضيف سلطة الإشراف على فرق المراقبة الاقتصادية إلى باقي السلطات التي احتكرتها لنفسك منذ 25 جويلية !
إن دورك يجب أن يكون أهم و أشمل من ذلك فما تقوم به قد يترفع الوالي عن القيام به فما يكفله لك الدستور _ رغم تعليقك له _ و يكفله لك منصبك اليوم كمسير وحيد للبلاد في غياب رئيس حكومة أو وزير أول، يتجاوز المداهمات إلى بناء بدائل حقيقية و وضع تصورات و مخططات تنموية ترسي قيم العدالة و المساواة. فإنقاذ البالد و تطهيرها من الفساد يتم عبر توفير مناخ عام لإنجاز و إنجاح البرامج التنموية التي يضعها مجموعة من الخبراء و فريق عمل متكامل يضم رجال اقتصاد و علماء نفس و اجتماع و إداريين و أمنيين و غيرهم …و ليس عمل رجل واحد ، و نحن نعيش مرحلة مليئة بالصعوبات و المخاطر و الانتظارات تتطلب مشاركة أعلى الكفاءات التونسية و تضافر جهود كل من يقاسمك نفس الخوف على البلاد .
فمهما كانت خصالك و إمكانياتك لن تستطيع تسيير البلاد بمفردك و لا فهم التفاصيل الاقتصادية الدقيقة خاصة وقد رأيناك في الفيديوهات التي تعرضها على صفحة الرئاسة على الفايسبوك (أداة تواصلك الوحيدة معنا نحن الشعب أمام رفضك لإجراء أية حوارات صحفية أو حتى تعيين مستشار إعلامي يكون همزة الوصل بينك و بين المحيط الخارجي للقصر المعتّم المنغلق على نفسه) رأيناك تضطرب أمام الأرقام الكبرى ولا تميز بين المليار و الألف مليار !
في محاربة الفساد نريد العدل لا الانتقام، نريد كشف الكواليس للشعب لا التهديد بكشفها، نريد مشروعا متكاملا ينبني على الوعي بالحقوق و الواجبات و بمفهوم الدولة و أركانها… نريد مناخا مساعدا على الاستثمار مشجعا على استقطاب رأس المال. فهذه الخطب النارية لا يمكن أن تشجع رجال الأعمال على القيام بمشاريعهم و لا يمكن أن تخلق حلولا للشباب العاطل الذي ينتظر التشغيل على أحر من الجمر و للمتقاعدين الذين يعانون من نظام جائر و من الموظفين الذين تتأخر أجورهم و يُسرَق مجهودهم باقتطاع نسبة 1٪ منه و للفلاحين و للصناعيين و الحرفيين و التجار وأصحاب المؤسسات الصغرى و.. و…
سيدي الرئيس ، من حكمة الله أن خلق الله لنا لسانا واحدا و أذنين لنحسن الإصغاء قبل الكلام.. فأرجو أن تصغي لمن ينقدونك و هم يرغبون في نجاحك قبل أن تصغي لجوقة المهللين الذين يوغرون صدرك على غيرهم من أبناء الشعب أرجو أن تستمع لنصائح الصادقين و أن تكوّن منهم و معهم فريق عمل قادرا على صياغة مشروع مستقبلي للبلاد وبناء استراتيجية مرحلية واضحة المعالم. فالإجراءات الاستثنائية لا يمكن أن تدوم و المداهمات و الاتهامات العلنية والمحاكمات على الملأ لا يمكن أن تكون برنامج حكم و إن أفادتك اليوم فلا يمكن أن تفيدك طويلا. و خطاب الحقد لا يبني و الشعبوية لا يمكن أن تتواصل، و القبضة الحديدية لو كانت تنفع لنفعت ستالين و هتلر و غيرهما من الطغاة ولكن الزمان غير الزمان و الوقت غير الوقت و الشعب لن يطول صبره و الالتزامات الدولية لا يمكنها الانتظار أكثر.
سيدي الرئيس
لقد ولى زمن الرجل الواحد و الرئيس المنقذ و الفارس الهمام الذي يأتي ليخلص رعيته من الأشرار …و لم يعد الشعب في حاجة إلى قائد على صورة الأب في العائلة التقليدية يخاف منه و يترك له أمر تقرير مصيره و تسطير برامج حياته فيتدخل حتى في زواجه و طلاقه و عدد أطفاله إن لزم الأمر .
إن الحاكم لا يعدو أن يكون موظفا يتقاضى أجره من جيوبنا و ضرائبنا. انتخبناه أو انتخبه جزء منا لتسيير الدولة و السهر على مصالحنا من واجبه أن يحترم حقنا في المعلومة و يتخلص من غموضه و يتعامل معنا بشفافية و يوضح لنا تصوراته و رؤاه و برامجه المستقبلية، و من حقنا عليه أن لا يتركنا عرضة للإشاعات و أن نتشاور معه و ننقده و نوجه له النصح و اللوم و نشترك معه في التخطيط و البناء … …