لنعترف اليوم أن الدولة فشلت في توفير أبسط مستلزمات الحياة لهذا الشعب المغلوب على أمره، لنعترف أن هذه الدولة فشلت في إيجاد البدائل الموعودة لضمان عيش كريم للمواطن…
لنعترف أيضا أن كل ما قيل عن المنظومة السابقة، وجب قوله بأكثر حدّة عن المنظومة التي حكمت البلاد منذ 2011 إلى يومنا هذا من حكم قيس سعيد، فهو الوحيد الذي سيتحمّل تبعات كل الفشل الذي عاشته البلاد منذ 2011 إذ هو من أختار أن ينقلب على شركائه وينقذهم من تحمّل تبعات ماعاشته البلاد…فالأوضاع تدهورت إلى حدّ يصعب معه إخراجها مما وقعت فيه وأصبحت أسوا مما كانت عليه سنة 2010 بمئات المرّات وأصبح الهروب من جحيم المأساة اليومية التي يعيشها المواطن التونسي الحلّ الوحيد للنجاة وضمان مستقبل أكثر أمنا واستقرارا لكل من فقدوا الثقة في حكام هذا البلد… وفي عودة البلاد إلى سالف استقرارها أمنيا واجتماعيا واقتصاديا…
تعيش البلاد اليوم أو لنقل يعيش جنوب البلاد موجة هجرة غير مسبوقة، لا حديث عنها في أروقة الحكم ولا مكاتب “دار الباي” التي تقطنها “العمّة نجلاء” وكأن الجنوب غير مُدرج في اهتمامات حكومة القصبة ولا في اهتمامات ساكن قرطاج…فما تعيشه بعض ولايات الجنوب لا يمكن أبدا تسميته بالــ”حرقة” بل اصبح شبيها بموجة نزوح أو تهجير “إرادي” أو ربما لجوء مسكوت عنه…فــ”الحارق” اليوم أصبح اقرب إلى اللاجئ في تسميته…فصمت الدولة عن الهجرة الجماعية أصبح مثيرا للريبة والشكّ وكأني بهذه الدولة قبلت بأن تفرّط في أبنائها ليرتموا في أحضان شوارع وانهج مدن شمال ضفّة المتوسط…فأن يهجر البلاد عشرات الآلاف في فترة وجيزة فهذا يصبح في مفهوم الهجرة غير المنظّمة لجوءا وهروبا من وضع غير انساني إلى وضع غير مضمون وغير مستقرّ… وكأني بالدولة تريد أن تتخلّص من “حمل ثقيل” خوفا من أن يخرج عليها غدا ليقول لها ولمكوناتها “ارحلوا”…
هؤلاء الذين أعتبرهم شخصيا “فارين” من جحيم أوطانهم…من ديارهم…من ارضهم…تاركين أهلهم وما بنوه…وهاربين إلى أوطان أخرى…ووجوه أخرى…ومدن أخرى يأملون في أن تعوّضهم الهجرة الوجع الذي عانوه، والمأساة التي عاشوها في أرض كانوا يسعدون بالهتاف باسمها قبل أن تدوسها اقدام التتار والمغول والوندال ويتربّع على عرشها من لا يعون مفهوم الدولة ولا يدركون قيمة ما عاناه بناة الوطن، ومن لا يعترفون بمن ضحوا من اجل هذه الأرض، وقبل أن يصبح “الحقد” من مكوّنات الهواء الذي يتنفسون…والماء الذي يشربون…والحديث الذي يتحدثون…هؤلاء الذين فقدوا كل أمل في أن تستقيم أحوالهم…ويسعدوا بأبنائهم…قرروا الهرب بجلدهم…بحثا عن حضن أكثر دفئا يحميهم…ويمنح مستقبلا افضل لأبنائهم…هؤلاء هربوا “لاجئين” بعد أن باع اغلبهم ما يملك ليوفّر تكلفة اللجوء والهروب… فإن عادوا يوما فلن يجدوا سكنا يأويهم…وسقفا يحميهم…وحضنا يواسيهم…فهم غرباء هنا…وغرباء هناك…وهم موتى هنا…ونصف أحياء هناك…
نحن اليوم أمام وضع غريب…غير طبيعي…مأساوي…موجة من الهجرة الجماعية من بلد لا يشهد حربا بسلاح تقليدي…بل حربا بسلاح لا تراه العين، سلاح أخطر من كل أسلحة الدمار الشامل سلاح اسمه “الحقد” في بلد يشهد وضعا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا متدهورا…عائلات بأكملها…نساء…شيوخ…عجزت الدولة عن ضمان أمنهم الاجتماعي…فخيّروا الهروب بأطفالهم…وأمانيهم…ومأساتهم…وجراحهم…وأمراضهم…ومعاناتهم…وعذاباتهم …قرروا أن يعانوا ألم الهروب ووجع السكن بعيدا عن الديار، فقط لتوفير وضمان مستقبل افضل لأبنائهم الذين يموتون هنا في أوطانهم بالتقسيط المؤلم أمام أعينهم إحباطا ويأسا من دولة كذبت في كل ما وعدت…
نعم، نحن أمام مأساة حقيقية، عائلات بأكملها هربت من وطن أوجعها…إلى وجهة لا أحد يعلم إن كانوا سيسعدون بها أم سيرون فيها العذاب ألوانا…لا أحد سيضمن لهم قوت يومهم…ولا أحد سيوفر لأطفالهم سقفا يمنع عنهم برد ومطر دول شمال ضفّة المتوسط…هؤلاء تركوا وباعوا جدران بيوتهم…ودفء أغطيتهم…من أجل انقاذ أبنائهم من مستقبل غامض…مستقبل تنكرت دولتهم في ضمانه…وغدرت بهم من أجل عيون صندوق النكد الدولي بعد أن أفرغت الحكومات المتعاقبة خزائن الدولة، بتواطؤ من اتحاد شغل باع ذمته وتنكّر لرسالته وحاد عن أهدافه وكان السبب الأول في الوضع الذي تعيشه البلاد، فهو الذي أوصل كتلة الأجور إلى ذلك الحجم…وهو الذي تنكّر لكل الشعارات المرفوعة أيام حراك ديسمبر وجانفي من سنتي 2010 و2011…واكتفى فقط بالنفخ في أجور العمال والموظفين والإطارات وحملات تسوية الوضعيات التي أثقلت كاهل خزينة الدولة، وجعلتها تئن تحت وطأة كتلة الأجور في ظلّ شلل تام بأغلب القطاعات المنتجة بسبب ما يحاك في مكاتب بناية ساحة محمد علي…
جميعهم تآمروا على هذه الأرض… وتكالبوا للقضاء على هذه الدولة…جميعهم لم يأبهوا للإنسان…لأوجاعه…لمأساته…لمصيره…لمستقبل أبنائه…لا يزال بعض شبابنا يموت غرقا في المتوسط ويلفظ كل يوم انفاسه يأسا واحباطا من وضع اجتماعي نخر جسده وقتله دون أن يدري أنه ميت حيّ… ولا يزال الاخرون يصرون على صمتهم المخزي عن وضع اجتماعي يسوء كل يوم، يبحثون فقط عن كراسي السلطة والجاه، ولا يأبهون لمن هرب…ومن مات غرقا… ويبقى والد كل مهاجر هارب من وجع وطن خذله، يعمل ليلا نهارا ويتسول من هذا ومن ذاك ثمن هروب ابنه عنه وعن الوطن…وعن حضن أمه المسكينة…وعيون إخوته الباكية …خوفا من أن يشتعل لهيب التمرّد في عيون أبنائه فيخرجوا على الحاكم…فيموتوا بشظيّة لا أحد يعرف مصدرها أو بسجن يحرمهم حضن أم عانت من أجلهم الكثير…ووالد مات دون أن يسعد بأبنائه…ففقدان الأبناء غرقا أصبح أهون عند البعض من فقدانهم أمام أعينهم…أحياء…وما هم بأحياء…يتوجعون…يصرخون من ظلم دولة ووطن أجبرهم على تركه والرحيل…وطن أصبح غير صالح للحياة…وللموت أيضا…وطن يموتون فيه أمام أعين أمهاتهم…
وطن أصبح فيه الكرسي مقدّسا…والشعب فيه مدنسا…وطن أصبح يحنّ للأصنام…يموت العاطل فيه…ويجوع الفقير فيه…وطن لا يزال الفقير مسحوقا فيه…وموجوعا منه… يركض وراء لقمة عيش تكاد تسد رمق أطفاله وأم أطفاله…وطن تغتال فيه الديمقراطية كل يوم وكل ساعة… ديمقراطية أصبح الشعب فيها… بين عاطل ومعوق… ومتشرّد ومتسكع …وممنوع من السفر… وقابع في الإقامة الجبرية…